صفحات "هزلمأساوية" من تاريخ حكم العسكر (2)

17 يونيو 2019
+ الخط -
(ـ المشير عامر يقول لرفاقه: لو ناصر كلمني عن الدستور هاقول له: إنت ناسي ده إحنا دافنينه سوا ـ ناصر يطلب من عامر أن يهدئ غضب هواري بومدين من مقالة نشرتها الأهرام لأن مصر فيها حرية صحافة، فيرد عامر "ليه هو بومدين بريالة عشان يصدق؟" ـ عامر يقول لرفاقه بعد قطيعته مع ناصر: تركنا تطبيق الديمقراطية لجمال فضيعها مع أنها كانت أهم مبادئ الثورة ـ خناقة السمك والباذنجان والسردين بين ناصر وعامر ـ المشير يوافق على دخول رجاله إلى إدارة نادى الزمالك ليغيظ الأهلاوي عبد الناصر)

برغم أن ما يرويه عبد الصمد محمد عبد الصمد عضو مجلس الأمة السابق وصديق المشير عبد الحكيم عامر ونائب دائرته في محافظة المنيا في كتابه (العشاء الأخير للمشير)، لا يمكن أن تقرأه بعيداً عن تحيزه وولائه لعبد الحكيم عامر، إلا أن روايته تقوم بإكمال جزء ناقص من صورة مصر في ظل حكم عبد الناصر، التي لا تزال تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد، لكي تتضح معالمها أكثر، خصوصا في ظل الحظر الذي لا يزال مفروضا على كافة الوثائق الرسمية عن تلك الفترة، التي لا زالت تلقي بظلالها على مصر والمصريين حتى الآن، كما لعلك تعلم وتعيش.

بعد أن نقل عبد الصمد على لسان المشير عامر إحساسه المرير بضرب عبد الناصر له من الخلف، بدأ في رواية تفاصيل عن تاريخ الصراعات بين ناصر وعامر، قبل أن تظهر تلك الصراعات إلى النور بعد الهزيمة. من بين تلك التفاصيل مثلاً ما حدث عند قيام عامر بضم شقيقه حسين وصديقه عبد الصمد إلى إدارة نادي الزمالك سنة 1962، لأنهما كانا يشكيان من الفراغ السياسي والوظيفي باعتراف عبد الصمد، وهي خطوة يؤكد عبد الصمد أن المشير قام بها "لكي يغيظ عبد الناصر الذي كان أهلاوياً، وكانت شعبية المشير وسط جماهير نادي الزمالك تغيظه"، يعترف عبد الصمد أنه لم يكن يتوقع أن عامر سيقوم بخطوة كهذه أصلا، لأنه كان رئيساً لإتحاد الكرة، وكان من شأن إدخاله لكل من شقيقه وصديقه إلى إدارة الزمالك أن يهز ذلك من حياد منصبه، لكن المشير لم يبال بذلك، لأنه يعرف أن أحداً لن يعترض أو حتى يمتعض، ويربط عبد الصمد تلك الخطوة، باستياء عبد الحكيم من قيام عبد الناصر باستخدام ما وصفه بأنه "لعبة النائب الأول"، بينه وبين عبد اللطيف البغدادي، حيث كان يتعمد عند سفره إلى خارج مصر، أن يأخذ معه عامر مرة، ويأخذ البغدادي مرة أخرى، فيكون كل منهما نائبا لرئيس الجمهورية بشكل فعلي في غياب الآخر، وكان ذلك يضايق عامر كثيراً، خصوصاً أن علاقته بالبغدادي تدهورت بشدة، بعد أن وقع قبل ذلك سوء تفاهم بين ناصر والبغدادي، وحين حاول عامر أن يزيله ويصلح بينهما، قال له عبد الناصر: "إنت عايز تصالحنا والبغدادي بيقول إنك إنت السبب في زعلنا"، فغضب عامر بشدة، وتوقف عن الحديث مع البغدادي منذ تلك اللحظة.


أما علاقة المشير عامر مع زكريا محيي الدين، فيقول عبد الصمد إنها توترت، عندما اتخذ عبد الناصر قرارا بعزل فئات من المواطنين عزلاً سياسياً، وكان عامر وقتها فى زيارة إلى الخارج، وحين عاد وجد ضمن من ضمهم قرار العزل، عددا من أبرز أبناء محافظته المنيا، على رأسهم الشيخ على عبد الرازق وزير الأوقاف الأسبق وصاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، وبعضاً من أفراد عائلة عبد الرازق وأفراد عائلات منياوية كبيرة، ورغم أن عبد الصمد يسعى في مواضع متفرقة من كتابه، لتصوير عامر بصورة الديمقراطي إلا أنه يذكر أن عامر احتج فقط على عزل أبناء المنيا، وقال لعبد الناصر: "يعني آجي من السفر ألاقيكم عازلين نص البلد؟"، وفى مرة أخرى قال له: "إنت حتعمل زكريا بيريا الثاني" ـ إشارة إلى بيريا رئيس البوليس السري في عهد ستالين والمسئول عن أكبر حملة تصفيات في تاريخ الإتحاد السوفيتي ـ ونُقلت العبارتان إلى زكريا بعد تحريفهما فساءت علاقته مع عامر بشدة، وهنا يضيف عبد الصمد أن غلطة عمر المشير، هي أنه صدّق ما كان يسمعه من عبد الناصر عن رأي زملائه فيه، دون أن يواجه زملاءه بما سمع، فانعزل عنهم وانعزلوا عنه، مؤكدا أنه لن يستفيض فى ذكر الأمثلة حتى لا يتضخم حجم كتابه، أكثر من حجمه الذي يبلغ نحو 200 صفحة.


"شوف إسرائيل بتقول إيه؟"
يعود عبد الصمد ثانية لرواية تفاصيل لقائه بالمشير بعد هزيمة 5 يونيو، وسفر المشير إلى المنيا، فيروى أن المشير بعد أن تناول غداءه فى يوم 12 يونيو 1967، فى منزل أخيه الأصغر بالمنيا، بقي صامتاً لفترة هو ومن معه، ثم قال لشمس بدران: "شوف لنا إسرائيل بتقول إيه ياشمس؟"، لأن المشير كان يعلم بالتأكيد كذب أجهزة الإعلام المصرية، التي كانت قبل أيام تذيع للمصريين أخبار بطولات عامر الخارقة، لكن نبرة المذيع الإسرائيلي المتفاخرة أزعجته، فأغلق الراديو، وذهب الجميع لنوم القيلولة، متفقين على السهر ليلاً.

فى المساء بدأ المشير عامر حديثه معلقا على خطاب تنحي عبد الناصر قائلاً بنص ما يرويه عبد الصمد اعتماداً على دفتر يومياته الذي كان يدون فيه ما يجري حوله أولاً بأول: "يمكن حد يكون فاكر إني فوجئت بخطبة الاستقالة وباللي حصل بعدها؟، أنا باعتقد إن اللي صدّق حكاية الاستقالة مش بس ساذج ده يبقى عبيط، لو كان جمال عايز يستقيل بجد، لا كانت عايزة خطب ولا بُكا ونحيب من المذيعين والمذيعات، لو حد سألني عن الخطبة قبل ما أسمعها كنت قلت له على اللي فيها، عشان جمال بيكرّر نفسه في كل حاجة، كل تنظيم سياسي أزفت من اللي سبقه وكل برلمان أنيل من اللي قبله.. ده في الخطبة مدح نفسه وأعمال الثورة اللي سجلها باسمه في الشهر العقاري.. وناسي إن مجلس الثورة هو اللي أنجز أهم أعمالها، وسبنا له المبدأ السادس (إقامة حياة نيايبة وحرية سليمة وديمقراطية) والمرمطة اللى مرمط فيها المبدأ اللي سبناه له أمانة فى رقبته.. ما حصلتش من حد قبله ولا حتحصل بعده.. يفتخر بأعمالنا ويلغينا جميعا.. ويخليها حكر عليه وحده.. والإبن الوحيد من أولادنا الستة اللي سبناهوله شنقه وما بيجيبلوش سيرة.. وفي آخر الخطبة بيقول إن قلبي كله معكم وأريد أن تكون قلوبكم معي، ويقول إن دي خطبة استقالة، ده واحد بيقول امسكوا فيا وإوعوا تسيبوني، أنا عارف إزاي أطرد اليهود وباحبكم وعايزكم تحبوني.. على كل حال ده مش وقت الحساب".

هكذا ينقل عبد الصمد نص حديث المشير عامر، متصوراً أنه سيساعد صديقه في الإفلات من مسئوليته، حين يُحمِّل عبد الناصر منفردا ذنب قتل الديمقراطية الذي تركه رفاقه في رقبته، دون أن يدرك أن أي قارئ نصف عاقل سيسأل: طيب، إذا كان رفاق عبد الناصر قادرين على صنع الإنجازات، لماذا تركوا عبد الناصر يقوم بقتل الديمقراطية كما يشاء، وإذا كان عامر يستطيع إغاظة عبد الناصر في مجال الرياضة فلماذا لم يقم بإغاظته في مجال الديمقراطية والحريات؟ وهو نفس المنطق الذي ينساه أيضاً الذين يقومون بتحميل عبد الحكيم عامر وحده كل خطايا عهد عبد الناصر، دون أن يدركوا أن أي قارئ عاقل وغير مشغول بالتحيزات ضيقة الأفق سيسأل: لماذا ظل عبد الناصر متمسكاً بعبد الحكيم عامر كل تلك السنوات، إذا كان عامر مسئولاً وحده عن كل ذلك الخراب، ولماذا ظل حريصاً على منحه المزيد من الصلاحيات، ليس في الشئون العسكرية وحدها، بل وفي الشئون السياسية والإقتصادية والرياضية أيضاً؟

يروي عبد الصمد أن المشير عامر عبّر ليلتها لرفاق سهرته عن غضبه الشديد، لأن عبد الناصر تباطأ في إذاعة خبر استقالته، قائلاً: "عبد الناصر لم يكن يجرؤ على تحميل مسئولية الهزيمة لي ولشمس، لأنه يعلم أن ذلك سيحدث كارثة فى البلد، ولذلك أخّر إذاعة الاستقالة لكي لا يشعر الناس بفداحة ما حدث، فيطالبوا بإبقاء الجميع حتى يصلحوا أخطاءهم وهو ما لا يريده، وقرر فى حساباته أن يساومني على أى منصب آخر بعيدا عن الجيش، عشان فاكر إني اعتدت حياة الرفاهية. وإذا فشل الاغراء يبقى التهديد باخفاء أمر الاستقالة بعد ما يتأكد من عجزي عن عمل شيئ، ولذلك صممت على إذاعة الاستقالة".


ثم يتخيل عامر في حديثه شكل المحادثة التي ستدور بينه وبين عبد الناصر، حين يسأله عبد الحكيم لماذا لم يقم بإذاعة استقالته في موعدها، متصوراً أن عبد الناصر سيقول له سببين رئيسيين لذلك: "الأول كان حيقول لي إنت قدمت لي استقالتك قبل ما أستقيل أنا، ودستورياً لازم أذيع استقالتي وحدي وكنت حاقول ومن إمتى بتعرف الدستور.. الدستور اللي اتولد ميت لما أصدرت لنفسك قانون قبل إعلان الدستور بيوم واحد يدّيك حق اعتقال أي مواطن وخراب بيته بالحراسة هو وأهله وجيرانه واللي يحبوه واللي يكرهوه.. إنت ناسى إن إحنا دافنينه سوا ولا إيه؟.. وكان حيقول لي ودفنته معايا ليه؟ وما أقدرش أرد.. والسبب الثانى هو عارف إني لا أرجو إني أطلب حق ليّا، حقي آخذه بنفسي إذا قدرت وإذا ما قدرتش خلاص غار ومش هاترجاه".

المهم أن إستقالة عبد الحكيم عامر لم تُذع في الوقت الذي طلبه من عبد الناصر، ولذلك أرسل المشير بعض موظفي مكتبه ليشرفوا على إذاعتها، ورغم ذلك لم تتم إذاعتها، فقال المشير لمن عادوا خائبين من الإذاعة، إنه سيذهب بنفسه ليذيعها، فقالوا له مترددين إن سامي شرف أصدر أمرا بمنعه من دخول الاذاعة لو حاول ذلك، فهبّ غاضباً وقال: "ماشاء الله هي وصلت لحد سامى شرف"، ثم خطر له خاطر تعقّل، فقرر الاتصال بجمال بدلاً من تصعيد الموقف أكثر، وقال لناصر فور أن رد عليه: "والله هزلت ياجمال"، فرد عبد الناصر متمالكا أعصابه: "إيه بس مالك ياعبد الحكيم"، فرد المشير: "وصل الأمر عليا أتمنع من دخول الإذاعة.. يبقى هزلت ولا ما هزلتشي ياجمال، طيب أنا رايح الاذاعة وهأشوف اللى يمنعني مين"، فأخذ عبد الناصر يهدئ ثورة عامر، ويقول له إن تأخير إذاعة الاستقالة وراءه الأمل فى إعادة الحسابات ليقنعه بعدم الرحيل عن منصبه، وعندما أصر عامر على إذاعة الإستقالة أولاً، معتبراً أن إذاعة الاستقالة ضروري لعدم المساس بكرامته وكرامة العسكرية المصرية، أكد له عبد الناصر أنها ستنشر فوراً في الصحف، طالباً منه أن يهدأ، وبالفعل نشرت الإستقالة في اليوم التالي، لكن عامر وصف طريقة نشرها لرفاقه بأنها تشبه "طريقة نشر فقد ختم أو استقالة شيخ بلد".


المذبحة والخديعة
في موضع آخر من مذكراته، يكشف عبد الصمد محمد عبد الصمد، أن حسن شقيق المشير عامر، كلّفه بمهمة وضع ناضورجية لمراقبة طريق الصعيد الرئيسي، لتنبيههم في حالة وصول قوة قادمة من القاهرة لاعتقال المشير، ويصف عبد الصمد القوة المسلحة الموجودة مع المشير بأنها كانت "كافية لحدوث مذبحة مخيفة"، قائلاً إن تلك المهمة ظلت مطبقة على صدره طيلة الليل، ولذلك قرر عدم تنفيذها، ليتيح للقوة المكلفة بالإعتقال إن جاءت، أن تنفذ عملها فى هدوء، فيجنب الجميع حدوث مذبحة دامية، ويبدو أنه كان مراهناً على أن قلب عبد الناصر سيرق في نهاية المطاف لصديق عمره ورفيق كفاحه ولن يلحق به أي أذى.

وعندما ذهب عبد الصمد في اليوم التالي لمقابلة المشير، قال له عامر إنه فوجئ مساء الأمس بمكالمة تليفونية مفاجئة من عبد الناصر بررها بقوله: "أعمل إيه.. اشتقت إليك.. قلت أسأل عليه أنا مادام هو مش عايز يسأل"، وقال المشير عامر إنه تلعثم أمام تلك الدخلة التي وصفها عامر بأنها "تمثيلية الأشواق دي"، فتبادل الصديقان اللدودان حديثاً ودوداً عن أولاد عبد الناصر، الذين طلب عامر من جمال أن يسلم عليهم، ففاجئه جمال بأنهم ذهبوا ليزوروا أسرة عبد الحكيم عامر التي كانت وقتها لا تزال مقيمة في منزله في الجيزة، فشكره عامر، وهنا رد عليه عبد الناصر قائلاً: "جرى إيه يا حكيم؟، إحنا بقينا أغراب ولا إيه؟، هي المسائل الطبيعية عايزة شكر"، ثم جدد عبد الناصر دعوته لصديقه بالعودة إلى القاهرة، فجدد المشير رفضه واعتذاره له، وانتهت المكالمة العاطفية.

تراوحت تعليقات أنصار المشير بين أكثر من تفسير لسبب المكالمة، لكنهم اتفقوا على سوء نية عبد الناصر ورغبته في استدراج المشير إلى القاهرة، لسبب ما لم يحددوه، وهنا يوقف عبد الصمد تسلسل حكايته ويستطرد قائلاً للقارئ بدون مناسبة إن عجزهم عن فهم قرارات عبد الناصر وتصرفاته لم يكن نتيجة عن قصور عقولهم عن إدراك عبقرية هذا الإلهام، كما قيل على لسان سعد زايد محافظ أسيوط والدكتور سليمان حزين رئيس جامعة أسيوط، والذين نسب عبد الصمد إليهما، أنهما قارنا بين رسالتي عبد الناصر وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بأن "الثانية كانت من وحي السماء، أي لا فضل له فيها، أما الأولى فهي من عبقرية إنسان له هذا التفوق العقلي الذى تجاوز به الامكانيات العقلية للبشر"، ورغم أن عبد الصمد لا يسوق أي مصدر يؤكد نسبة هذا الكلام إلى سعد زايد وسليمان حزين، لكنه يضيف أن سعد زايد بعد أن قال هذا الكلام تمت ترقيته ليصبح محافظا للقاهرة، في حين أصبح سليمان حزين وزيرا للثقافة، ثم يضيف دون مناسبة أيضاً أن الدكتورة سهير القلماوي قالت لأمين شاكر أحد رجال عبد الناصر إنها تشمئز وتكاد تتقيأ من النفاق السخيف المبتذل الذي يقوله الدكتور حزين.


وبعد أكثر من استطراد لا علاقة له بتطورات العلاقة بين ناصر وعامر، يعود عبد الصمد ليروي أن صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات العامة جاء لزيارة المشير فى يوم 16 يونيو، موفدا من عبد الناصر شخصيا، ليعرض على المشير منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية ومنصب نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولكن بدون اختصاصات، فتكون جميع أمور الجيش من اختصاص محمد فوزي، ورأى بعض أصدقاء المشير أن هذا العرض هبط من السماء وأنه يجب أن يوافق عليه، وينحني للعاصفة حتى تهدأ، ثم يكون له التصرف الذى يراه، وفاجأ المشير أصدقاءه بأن أعلن رفضه لهذا العرض، وقال لصلاح نصر: "قول لجمال أنا لا أعرف المناورات والتماحيك.. وقد كان بوسعي أن أبقى بدون استئذانه وعلى غير إرادته".

وبعد رحيل صلاح نصر عائدا إلى القاهرة، قال المشير لأصدقائه إنه لو كان قد وافق على العرض، لكان قد حقق لجمال أمنيته فى ألا يشترك أحد معه فى الرأي، لأن جمال يؤمن بأن الطريقة المثلى للحكم هي "أن يمسك كل حاجة فى يده"، وأضاف المشير قائلاً: "إذا ما كانش فيه شرعية دستورية ونظام شورى حقيقي، وده عكس رأي جمال وطبيعته، فلا بد من قوة ثانية تعمل بعض التوازن ورأي إثنين غير رأي واحد خاصة وإننا مختلفين فى حاجات كثيرة"، لكن هذا المفهوم "العامري" للشرعية الدستورية والشورى الذي هبط على عامر بعد أن وقعت الفاس في الراس، لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما يروي عبد الصمد نقلا عن عامر أنه أضاف ضمن أسباب رفضه لعرض عبد الناصر قائلاً: "أكثر من كده رجوعي للجيش من غير اختصاصات معناه إن محمد فوزي مثلا يصدر قرار بإحالة مدير مكتبي للمعاش ويصدّق عليه جمال وأنا أقرأ القرار فى الجرايد".

المشير والرئيس والجحش!
في تلك الليلة الطويلة، لم ينس المشير عامر خلال حديثه مع رفاقه، أن يعود لتحميل عبد الناصر مسئولية الهزيمة بمعاداته لأمريكا والغرب وإعتماده الكامل على الروس، قائلاً بنص ما يرويه عبد الصمد عنه ما يلي: "موقف مصر ساء أكثر، بعد ما إسرائيل أذاعت تسجيل فى إذاعتها كانت التقطته لمكالمة تليفونية لجمال مع الملك حسين وعبد المنعم رياض بيقول فيه: يا عبد المنعم طلّع بلاغ وقول فيه إن الطيارات الأمريكية بتضرب الأردن.. فلما أنكر عبد المنعم إن ده حصل.. قال له عبد الناصر: علشان المعركة تحمى.. طيب يبقى إيه شعور الأمريكان والغرب والعالم بعدما سمعوا التسجيل ده، هل يوقفوا معنا ويساعدونا من غير ما نحاول تحسين العلاقات معهم.. أنا حاولت أخلي جمال يزور أوروبا الغربية ويشوف صناعاتهم وحياتهم وتقدمهم.. ما فيش فايدة ما قدرتش.. أما بالنسبة للسياسة الداخلية فنفس الحكاية وأسوأ.. أنا ملّيت ويئست تماما.. عارفين حكاية الراجل اللى طلبت منه مراته يغير اسمه اللى كان (س الجحش) قام راح غيره إلى (م الجحش)، أهو أنا كنت زى الراجل ده.. لما كنا ساكنين سوا قبل ما نتجوز أنا وجمال.. كان يحب يوفّر وهو اللى ماسك الميزانية فأقول له نفسى آكل سمك، يقول أقلي لك بذنجان، أقول له سمك.. يعني بروتين.. تقول لي بذنجان نباتي، يقول لي طيب ما تزعلش أفتح لك علبة سردين.. أقول له افتح يا أخى أحسن من البذنجان، فى سنة 62 قلت عايز حكومة ورئيس وزارة راح جايب أى كلام.. المهم إنه يجتمع في مبنى البرلمان، عايزين تنظيم سياسي زي الناس، يجيب حتة من يوغوسلافيا وحتة من روسيا وتالتة من الهند ورابعة من السند.. ويعمل منهم بدلة زى بدلة الشحاتين بميت رقعة.. وكان لازم تكونوا فاهمينه من التجارب اللي إتعملت عليكم، واللي قال عنها عبد الصمد وأنا فى سوريا هوّ عاملنا فيران تجارب، ولما رجعت قال لي مش تقول له يلم لسانه؟.. قلت له هو بالغ شوية الحقيقة إنت عاملهم أرانب تجارب.. أما بالنسبة لعلي صبري واللي معاه وخطر إنفرادهم بجمال.. فعلشان أمنع هذا الخطر ما فيش طريقة غير إني أنزل لمستواهم وتبقى الحرب بيني وبينهم وهو يتفرج فى سعادة علينا.. وأستعمل سلاح الدس والنفاق ومع افتراض المستحيل فى قبولي للمهانة دي فجمال مش ممكن يصدق إني بأنافقه وحيزعل ويعتبر إنى باتريق عليه".

بعدها، يروي عبد الصمد نقلا عن المشير عامر، أنه تعهد لصلاح نصر بأنه حرصاً على طمأنة مخاوف عبد الناصر، سيطلب من شمس بدران أن يحضر زوجته وابنته ليقيموا قليلاً معه فى المنيا، وأبدى عامر استعداده لسحب الحراسة الموجودة معه، وحين غضب شمس من تعهد المشير، قام المشير إقناعه بأن يضحي قائلا له: "إنت عارف ان جمال وِدَني ويسمع الخبص ولازم نقطع لسان علي صبري وسامي شرف والجماعة اللي إنت عارفهم اللي جمال خلى لهم قيمة وأهمية وبقى ما يعرفش ينام قبل ما يدور اسطوانات الخبص بتاعتهم"، وهنا رضخ شمس بدران لرأي المشير، بشكل جعل عبد الصمد يتعجب قائلا من أن شمس كان يعامل عبد الناصر كأنه زميل له، في حين كان يعامل المشير عامر على أنه رئيس له، وهنا يروي عبد الصمد أن علي شفيق أطلق نكتة على شمس الذي كانت زوجته حاملاً وقتها، فقال علي شفيق ساخرا: على الله شمس ما يخلفش بنت، علشان ما يسميهاش نكسة!، لكن شمس أنجب ولداً فسماه (نصر) بالعند فى الجميع، طبقا لتعبير عبد الصمد الذي روى هذه الواقعة دون تنبه إلى أنها ستجلب اللعنات له ولكل أبطالها من أي قارئ سواءا كان طويل البال أم نافد الصبر.

هيكل فى أسطال
بعد ذلك، يستفيض عبد الصمد محمد عبد الصمد فى وصف المصاعب المالية التي بدأ المشير عامر يمر بها، منذ أن اختار قرار الإقامة فى بلدته هو وشمس وأسرتيهما وضيوفهما، مكذباً الإشاعات التى قال أن الإتحاد الإشتراكي أطلقها والتي قال بعضها إن المشير "باع بلده مقابل سبائك ذهبية من اليهود"، مؤكدا أنها لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها عامر للإشاعات، "فقد أطلق الشيوعيون فى منشورات عام 53 إشاعة تقول أنه هو واللواء محمد نجيب يدخنان الحشيش، كذلك فقد ظهرت إشاعة حول علاقته بإحدى المطربات مع أنه كان وقتها خام ولا يعرف شيئاً عن مثل هذه العلاقات وعندما سمعها المشير قال ضاحكا: ياريت بس لو كانوا يقولوا أشاعات ويحققوها"، وهنا ينقل عبد الصمد عن أكثر من شخصية من أسرة المشير أنهم "مستعدون للمثول أمام لجنة تحقيق يرأسها أحد رجال الدين ليقسموا أمامها بكل الأيمانات العظيمة والمغلظة أن المشير لم يذق الخمر فى حياته ولا دخن الحشيش الذى ألفت فيه قصص من خيال مريض"، ثم يترك هذه النقطة ليعود إلى الحديث عن معاناة المشير المالية عقب خروجه من السلطة، وقيامه بالإعداد لتدبير أمور معيشته، ببيع ميراث والده وسحب مدخراته في بنك الإسكندرية، وبيع قطعة أرض كان يمتلكها للدكتور إبراهيم بدران وزير الصحة السابق، لكنه مات دون أن يوقع عقدها، رافضا كل عروض رجاله بمد يد العون له، حتى أن عبد الصمد يقسم أنه زار المشير مرة بعد عودته إلى القاهرة من المنيا، فشكا له من أنه سيأكل اليوم عدساً أو طعمية، لعدم وجود لحمة، لأن أمواله أوشكت على النفاذ.

يكشف عبد الصمد أن عودة عامر من المنيا إلى القاهرة، لم تأت إلا بعد أن فوجئ المشير بعد مضي ثلاثة أيام على زيارة صلاح نصر، بقدوم الكاتب محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام ولسان حال عبد الناصر إلى أسطال، لينجح فيما فشل فيه غيره، ويقنع عامر بالعودة إلى القاهرة، وهو ما استغربه عبد الصمد، لأنه كان يعرف ضيق المشير من هيكل "لعدة أسباب منها أن هيكل كان هو الذى أعد مشروع تأميم الصحافة وكان عبد الحكيم فى الخارج ولم يكن راضيا عن ذلك وعندما عاد قال لهيكل: حتى أنت؟" ـ وهي رواية تختلف عما رواه الأستاذ هيكل عن موقفه من ذلك القانون الذي يقول أنه لعب دورا في تحجيمه كما يروي في كتابه (لمصر لا لعبد الناصر) ـ

أما المضايقات الشخصية التى حدثت للمشير من هيكل، فيحددها عبد الصمد في عدة مواقف، من أهمها أن هيكل نشر مرة مقالاً يهاجم فيه الملك عبد الله جد الملك حسين في الوقت الذي كان المشير عامر يقوم بزيارة رسمية للأردن، ثم تكرر ذلك مرة أخرى بعد انقلاب هوارى بومدين في الجزائر، وسفر المشير إلى هناك في زيارة رسمية، فوجئ بغضب بومدين منه، واتهامه له بأنه جاء في الأصل ليهنئ بن بيلا بفشل الانقلاب، مستشهدا بمقال لهيكل قرأته الأذاعة المصرية كان يعلن فيه فشل انقلاب بومدين على بن بيلا، ويقول عبد الصمد إن عبد الناصر قام بإحتواء غضب المشير فى الواقعتين، رغم أنه قرر الإستقالة بعد حدوثهما، ويروى عبد الصمد نقلا عن عامر إن ناصر قال له فى الواقعة الثانية، إن الإذاعة المصرية تنشر مقالات هيكل وغيرها لأن الصحافة حرة، فرد عليه عامر: "بتقول لى أنا الكلام ده"، فسارع ناصر ليقول: "قصدى إنك كان ممكن تقول كده لبومدين"، فرد عبد الحكيم: "وإنت فاكر إن بومدين بيريّل علشان يصدقني". وفي معرض استغراب عبد الصمد من إقناع هيكل لعامر بالعودة إلى القاهرة، يروي واقعة يعتذر عن عدم ذكره لتاريخ حدوثها بالضبط، وهي أن هيكل طلب ذات مرة مقابلة من عامر بصفته هيكل الصحفي، وفى المقابلة طلب من المشير أن يعده بأن يرعى أولاده إذا حدث له شئ، وعندما أستغرب المشير الطلب فسّره هيكل له، بأنه يعرف أكثر من أى أحد، أنه لا أحد يستطيع أن يطمئن على نفسه لأن كل شئ يمكن أن ينتهى بغلطة أو شك.

ومع ذلك عاد المشير عامر إلى القاهرة فعلاً بعد زيارة هيكل، لكن الموقف ظل متجمدا بينه وبين عبد الناصر لفترة، قبل أن تبدأ الأزمة بينهما في التصاعد، حين تم اعتقال عدد ممن يصفهم عبد الصمد بأنهم "رجال المشير"، وكان أولهم الفريق عبد العزيز مصطفى رئيس مؤسسة الأسماك ونائب المشير فى إتحاد الكرة وواحد من أكثر أحباب وأصفياء المشير، ولم يدم اعتقاله أكثر من ثلاثة أيام ليخرج إلى بيته ملتزما الصمت، بعدها تم اعتقال الفريق صدقي محمود، وأعقبه اعتقال اللواء طيار عصام خليل، وازداد التوتر ورفض المشير طلبا من البعض بأن يكلم جمال ليفرج عن المعتقلين قائلاً: "هو بيعتقلهم علشان يغيظني وإذا اترجيته النهارده بكره أبوس إيديه".

بعد ذلك تعرض عبد الصمد نفسه للإعتقال، وهو قرار يفسره عبد الصمد بأنه قبل إعتقاله بثلاثة أيام، وخلال زيارة عدد من أصدقائه وأقارب المشير له فى بيته بالقاهرة، أثير موضوع الفيلّتين اللتين اشتراهما عبد الناصر لابنتيه هدى ومنى، ودافع عبد الصمد عن ناصر فى هذا الموضوع، مؤكدا أن ذلك كان في الأصل اقتراحاً من المشير عامر، الذى اعتبر أن ذلك أفضل لهما من دفع خلو فى شقتين، ويقول عبد الصمد إن الكلام وصل محرفاً إلى هدى عبد الناصر، فلم يصله أنه دافع عنها، بل وصلها أنه هاجمها، فذهبت تشكوه لأبيها، فقال عبد الناصر للمشير: "قول لعبد الصمد ما يجيبش سيرة أولادي ويشنع عليهم"، ويعتبر عبد الصمد أن هذه الحكاية كانت هي السبب الحقيقي لاعتقاله وفرض الحراسة عليه وخراب بيته.

ولا زال فى جعبة عبد الصمد محمد عبد الصمد وقائع كثيرة يرويها لنا، على رأسها السر الخطير الذى وعدنا به في بداية شهادته، وهو ما نكمله غداً بإذن الله.

...

تقرأ في حلقة الغد:
ناصر يقترح على عامر أن يذهب إلى يوغوسلافيا بدلا من إيطاليا وعامر ينفجر غاضباً ويقول لناصر: "مش هاسافر وحاتحداك لآخر نفس في حياتي" ـ المشير يقول لرفاقه: هو أنا إشتركت في طرد فاروق الأول علشان أستبدله بالمستبد عبد الناصر الأول ـ معركة حامية في قلب القاهرة بسبب ضابط يريد عبد الناصر اعتقاله ويرفض عامر تسليمه ـ قائد الصاعقة السابق الموالي لعامر يختطف ضابطي شرطة كانا يراقبان بيت المشير وهيكل يقوم بالتوسط لإخلاء سبيلهما ـ جمال سالم يذكر عامر بأن ما جرى له سببه سكوته على أكل ناصر لرفاق الثورة وينصحه بالتوبة وحفظ القرآن)
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.