صراع العقول

19 ديسمبر 2017
+ الخط -
تجري الرياح بما تشتهيه إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فالفوز في الانتخابات البرلمانية التركية المقبلة يمر عبر إظهار الالتزام بالدفاع عن القدس عاصمة لدولة فلسطين المنتظرة. هذا ما كشفته فعاليات مؤتمر احتضنته أخيراً مدينة اسطنبول. وإذا كان موقف الحزب الحاكم، ورئيسه رجب طيب أردوغان، واضحاً وجلياً وقوياً، فإن رؤساء أحزاب المعارضة الذين تداولوا على المنصة في جلسة الافتتاح، وفي مقدمتهم رئيس حزب الشعب ووريث الكمالية، انتقدوا بقوة قرار ترامب، وانحازوا بوضوح إلى فلسطين. بل إن رئيس حزب السعادة كان أكثر جذريةً عندما استعرض تاريخ الصراع ضد المشروع الصهيوني منذ مؤتمر بال ووعد بلفور. وفي الوقت الذي يتهيأ فيه بعضهم للتعاون المباشر والاستراتيجي مع إسرائيل، حذّر فيه حزب السعادة من مخطط إسرائيل الكبرى، مشيراً إلى أن هذا المشروع يتقدم بخطى ثابتة وسريعة، واعتبر قرار ترامب يتنزل ضمن هذا المخطط. .. إذا كان هذا حال الطبقة السياسية في تركيا التي ظن الغرب، في مرحلة سابقة، أنها انقطعت نهائياً عن تراثها العثماني، فما بالك ببقية دول العالم الإسلامي.
تورطت أنظمة كثيرة في المنطقة في اختياراتٍ ومساراتٍ أفقدتها القدرة على التمييز، وجعلتها تتوهم أن الصهيونية يمكن أن تصبح صديقة في حال السماح لها بابتلاع فلسطين، لكن هذه الأنظمة بالذات تجد نفسها، في هذه اللحظة، غير قادرة، ولا تملك الشجاعة الكافية للتقدّم خطوة أخرى نحو الإعلان عن تأييدها صراحةً قرار التخلي، وبشكل نهائي، عن مدينة في مكانة القدس وحجمها. هذه الأنظمة مضطرة لكي تلجأ من جديد للمناورة والنفاق السياسي، في انتظار حلول اللحظة المناسبة، على الرغم من إصرار ترامب على غلق هذا الملف بسرعة قياسية.
في حوار في القناة الفرنسية الأولى، سئلت أخيراً سفيرة إسرائيل في باريس عن إمكانية أن يؤدي التفاوض مع الفلسطينيين إلى احتمال أن تصبح القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، فكان جوابها واضحاً وجازماً وبدون دبلوماسية: لا أعتقد أن هذا احتمال وارد. فسئلت عن السبب الذي جعلها جازمةً في نفيها هذا الاحتمال، على الرغم من قرار مجلس الأمن أن الوضع النهائي لمدينة القدس يُحسم في مفاوضات مباشرة بين طرفي النزاع. فماذا كان رد هذه السفيرة العلمانية؟. قالت بكل وضوح إن النبي داود قد وعد الشعب اليهودي قبل أربعة آلاف عام بأن تكون مدينة القدس كلها من نصيب إسرائيل!.
يدرك العقل الاسرائيلي ما يريد أن يصل إليه، وليس مستعدّاً أن يغير مساره، أو يتنازل عن الثوابت التي وضعها منذ قرن مضى، مهما كانت الضغوط وحسابات الآخرين. إنه عقل مختلف عن عقول الآخرين الذين يوصفون بأنهم شركاء السلام الموهوم والملغوم. هؤلاء أضجرهم طول الرحلة، واختلطت عندهم الأولويات، وظنوا أن عدوهم يمكن أن يصبح حليفاً، ويمكن أن يلتزم بالوعود والاتفاقيات الدولية.
الخطة واضحة، وسيستمرون في تنفيذها مهما طال الزمن. سيناورون بدون كلل، وسيستعملون الخدعة وراء الأخرى. أصبح هذا الأمر واضحاً لكل ذي عينين.. لم يعد الأمر يتعلق بالقدس الشرقية، وإنما يريدون استبدالها ببلدة أبو ديس التي ستصبح مادة جيدة لمفاوضات الحل النهائي، كما يزعمون.
مجرد كذبة صغيرة لامتصاص الغضب، وجرّ العالم إلى خارج إطار الصراع الحقيقي. لا تستوي القدس ببلدة صغيرة، ولو كانت ذات قيمة لما اتخذها صلاح الدين الأيوبي معسكراً له قبل تحرير القدس. وحتى هذه القطعة من الأرض، لن تسلّم للفلسطينيين، حيث سيشرع العدو في الإعداد لخطة تزيد إبعاد أصحاب القضية عن أرضهم.
يراهن العدو كثيراً على عامل الزمن، لأنه يعلم جيداً أن العرب، بمن فيهم جزء من الفلسطينيين، ينقصهم طول النفس، ويفتقرون للعقل الاستراتيجي الذي يجمع بين الرؤية البعيدة والواقعية السياسية. لقد استثمر الإسرائيليون كل شيء لصالحهم، بما في ذلك الخرافات والأساطير، في حين أضاع العرب كل ما يملكونه من أسلحةٍ، بما في ذلك التاريخ والجغرافيا. على الفلسطينيين أن يفتحوا عيونهم جيداً، قبل أن يتخطفهم الطير. إنها لحظة تاريخية فارقة.