صدر قديماً: "مجمع البحرين" مقامات عصر النهضة

11 مارس 2017
(بورتريه لليازجي)
+ الخط -

حين كتب ناصيف اليازجي (1800-1871) مقاماته "مجمع البحرين" كان الزمن قد طوى أكثر من ثمانية قرون منذ أنّ صنع وأصّل هذا الفن بديع الزمان الهمذاني (969-1007)، وسبعة قرون ونيّف على مقامات الحريري (1054-1112) التي طبقت شهرتها الآفاق.

هذا الالتفات إلى الخلف بعد مضيّ تلك القرون، وعلى مشارف نهايات ما اصطلح على تسميته بعصر الانحطاط، وبدايات النهضة أو اليقظة العربية، ينطوي على الكثير من المقولات يمكن إجمالها في مقولة إعادة تشكيل الهوية الضائعة، فالعرب الذين رزحوا تحت حكم المماليك والعثمانيين، آثروا تسمية تلك الحقبة بالانحدار أو الانحطاط، وكانت اليقظة، فكان أمثال اليازجي من الغيارى على إحياء ما وجدوه قريباً من روحهم، ومن هويتهم، فكانت مقاماته "مجمع البحرين".

يمكن عدّ "مجمع البحرين" مع "مقامات الهمذاني" و"مقامات الحريري" ثلاثية فنّ المقامة العربية، وما يشفع للكتاب أن يدخل في هذه الثلاثية، هو مدى البراعة التي صاغ بها اليازجي هذه المقامات، من حيث اللغة والبناء ومشاكلته لمقامات الآخريَن؛ وبخاصة الحريري.

تقوم بنية المقامة عند اليازجي - جرياً على ما رسمه الهمذاني والحريري - على الراوي الذي يرويها، وهو شخصية متخيّلة تقوم برواية الأحداث وهو سُهيل بن عبّاد، وأما بطل الحكاية فهو رجل مُشرّد ذو أدب ولسان بارع يتقمّص في كلّ مرّة شخصيّة معيّنة، يُضحِك الناس أو يُبكيهم أو يُبهرهم ليخدعهم وينال من أموالهم، ضمن حدث ظريف، وهو ميمون بن الخِزام ويشاركه في الأحداث ابنه رجب وابنته ليلى، إضافة إلى الراوي غالباً.

تتكوّن مقامات اليازجي من ستين مقامة، يبدأها بمقامة البدوية، وينتهي بالمقدسية منها، وهي تفترق عن مقامات سابقيه بالغاية والهدف، فإن كان الهمذاني والحريري قد قصدا بها تزجية الوقت بالأدب الرفيع والحكمة، وإلقاءها في حضرة أهل الملك، فإنّ اليازجي إنّما رام بها العودة إلى الجذور، ومحاولة تحبيب معاصريه بالعربية كلغة أدب وفنّ.

كما أنّ اختيار اليازجي "مجمع البحرين" عنواناً لمقاماته هو نقطة اختلاف مهمّة لكون العنوان العتبة النصيّة الأهم لبلوغ المتن والموضوع، وقد جاء العنوان مقتبساً من النصّ القرآني في قصة موسى وفتاه في سورة الكهف "وإذ قالَ مُوسَى لَفتَاهُ، لاَ أَبرح حَتَى أَبُلغَ مَجمَعَ البحرَين، أَو أَمضي حُقُبًا" وهي رحلة البحث عن الحكمة والمعرفة بلغة وأسلوب فيه من البراعة والجذب ما يشدّ السامع والقارئ، وكان مجرّد اختياره عنوانًا لمقاماته رغبة في رسم اختلاف - ربّما - عن سابقيه، وبصمته وإضافته إلى فنّ المقامة.

وإن كانت المقامات قد جُعلت "لأهل الكرامات" كما يقول اليازجي في المقدمة، فإنّه قد نال هذه الحظوة حقّاً، حتى وإن تواضع بقوله "إنني قد تطفّلت على مقام أهل الأدب"، فقدّم على مدار مقاماته الستين حكماً ومواعظ، أدباً وفكاهة، بديعاً وبليغاً، شعراً ونثراً، فهي بمثابة كشكول للأدب القديم في راهنٍ بات بعيداً عن الروح والنبع الأصيل.

ولعلّ مقامته القدسية - خاتمة مقاماته - زاخرة بالدرس الديني، حيث التوبة من اقتراف الذنوب في المقامات السابقة، وكأن اليازجي هاهنا يوجّه أدبه إلى الدارسين من طلبة العلم، فيقول: إنّ ما أنشأته وإن انطوى على بعض السوء واقترافه لبعض الذنوب يستحقّ التوبة حتى وإن كان افتراضاً، وقد ختم مقاماته على لسان راويته سهيل "ولبثت عنده شهراً أجتني من روضه زهراً، وأجتلي من أفقه زُهراً إلى أن حمّ الفراق، وقال ناعبه: غاق! فاعتنقني مودّعاً، ثم سايرني مشيّعاً. وقال: موعدنا دار البقاء، فكان ذلك آخر عهدنا باللقاء".

ولعلّ أدقّ وصف لصاحب "مجمع البحرين" أنّه قد ترك خلف ظهره ما سمّي بالانحدار، ودخل في النهضة التي دخلت إلى روح المكان الذي انكفأ على ذاته ردحاً من الزمن، فكان مجمع حقبتين بحقّ.

المساهمون