(باريس: سوي، 2016)
عندما نشر جان جاك روسو 1712-1778 عمله "أحلام يقظة مشّاء منفرد" لم يكن يعلم أنّه يدشّن جنسا في الكتابة، (أو ما يشبه الجنس) وأنّ آخرين غيره سيصوغون أعمالهم على منواله. وربّما كان الخطأ خطأ النقّاد الذين أصّلوا أصول "أدب الرحلات" ولكنّهم لم يقعّدوا قواعد "أدب المشي والمشّائين"!
ضمن هذا النمط القديم/الجديد أصدر الكاتب الفرنسي إيريك آزون عملا تحت عنوان "عبور باريس" سلّط الأضواء من خلاله على المسار اليوميّ الذي ظلّ يسلكه عقودا طويلة من جنوب عاصمة الأنوار إلى شمالها، لافتا انتباه القارئ إلى أنّ المكان يعبق بالزمان، وأنّ كلّ زاوية وكلّ منعطف وكلّ ركن وكلّ شارع يحيل إلى ماض بعيد أو قريب، تماما مثلما هو منشدّ إلى لحظات الحاضر المتحوّلة المنفلتة. ولكنّ إيريك آزون لا ينظر إلى باريس من حوله بعين السائح ولا بشجون الشاعر، بل بوعي الثائر الذي لم تنقطع ثورته، ولم تتوقّف منذ سنوات الخمسين التي كان فيها من أكبر المناصرين للقضيّة الجزائريّة، مرورا بسنوات السبعين التي حملته إلى بيروت، حيث مارس مهنة الطب والجراحة إلى جانب القوى التقدّمية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، انتهاء بآرائه حول مسألة الحريّات الفردية والجماعيّة في فرنسا في ظلّ التهديدات الإرهابية.
في رحلة المكان والزمان يعبر إريك آزون فضاءات باريس ويستنطق في كلّ خطوة المعالم والأحداث والشخصيات بحثا عن ذاته وعن ذوات الآخرين.
القاموس العاشق للشرق
(باريس: منشورات بلون، 2016)
بأسلوب شفاف متحرّر من إكراهات الصياغة الأكاديميّة الجافّة المتعالمة وضع الكاتب الفرنسي المتخصّص في الأديان المقارنة روني غيتان قاموسا امتدّ على ثمانمئة صفحة لكي يعلن عشقه للشرق وعوالمه الساحرة. ورغم اشتهار روني غيتان في الأوساط الفرنسيّة بأنّه من زمرة الكتّاب الملتزمين بالدفاع عن حوار الحضارات وتفاعل الديانات والثقافات، فإنّ "قاموسه العاشق للشرق" لم يكن وليد اهتماماته الآنيّة أو تخصّصه الضيّق، بل إنّه ثمرة من ثمار طفولته التي لم ينقطع فيها يوما ما عن محاورة الشرق والحلم به. في مقدّمة "القاموس العاشق" يسترجع الكاتب سنوات صباه المبكّر فيشير إلى الأثر البالغ الذي تركته فيه تلك البطاقات البريدية التي لم ينقطع والده عن إرسالها له خلال تنقّلاته عبر المرافئ والبلدان، عندما كان يشتغل في رتبة ضابط سام في البحرية الفرنسيّة. فقد كانت كلّ بطاقة حافزا إلى مزيد الاقتراب من عوالم الشرق والغوص في تفاصيلها لكي تكتمل لديه الصورة التي حصّلها أيضا من خلال مطالعاته لكتابات الرحالة والروائيّين والمغامرين أمثال شاتوبريان ونرفال ولامارتين. على امتداد سنوات طويلة ظلّ الشرق لدى روني غيتان موضوع عشق مكتوم ثمّ استوى أخيرا في شكل قاموس ضمّ مداخل عديدة اهتمّت بالأمم والطوائف والشعوب، كالعرب والأتراك والفرس والمصريّين واليهود والأنباط والإيزيديّين كما اهتمّت أيضا بالمدن والحواضر التاريخية العظيمة.
لقد كتبوا اسمك، أيّتها الحرية
(باريس: فايار، 2016)
مستلهما إحدى أشهر القصائد الفرنسية التي تغنّت بالحريّة، قصيدة الشاعر بول إيلوار 1895-1952 الذي لم يترك مكانا إلاّ وكتب عليه اسمها بدءًا بدفاتره المدرسية وصولا إلى الأماني التي لا ذكرى لها، أصدر الكاتب والصحافي الفرنسي فرونسوا دو كلوسي "لقد كتبوا اسمك، أيّتها الحرية" والذي أعاد فيه رسم الحريّة لا باعتبارها مفهوما مجرّدا أو مقولة نظرية، بل بما هي تجربة حياة وموقف من السائد وقطيعة مع المألوف استنادا إلى سير مجموعة من الأعلام الذين تركوا بصماتهم واضحة في التاريخ. وقد انتقى فرونسوا دو كلوسي مادّته بعناية فائقة ورتّبها على نحو لا تخفى دلالاته فاستهلّها بسيرة الفيلسوف اليوناني سقراط 469 ق.م - 399 ق.م الذي اختار تجرّع السمّ انتصارا للمبادئ التي يؤمن بها؛ ثمّ اختتمها بسيرة الفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو 1548-1600 الذي رضي أن يعدم حرقا من دون أن يتخلّى عن قوله بكرويّة الأرض ودورانها حول الشمس، وهو قول كان يُعدُّ في عصره من صميم الهرطقة. وبين سيرة سقراط وسيرة جوردانو برونو اللذين مثّلا في نظر الكاتب فرونسوا دو كلوسي "أعظم شهيدَيْن من شهداء الحريّة"، تتتالى التجارب على امتداد ألفين وخمسمائة سنة؛ تجارب فيها من الأعلام من احتفظت بهم ذاكرة الحريّة مثل فرنسيس الأسيزي 1181-1226 الذي يعتبر من أوائل دُعاة الحوار الديني، وغيرهم ممّن تدين لهم الحريّة باسمها؛ فلولاهم لما صارت هواء يتنفسه الجميع، في الغرب، طبعا.