يوجد في تونس تباين حادّ بين التاريخ الرسمي المكتوب للحياة الثقافية، والتاريخ المتداول شفاهياً. ولعلّ إحدى أكثر الحالات التي توضّح هذا التباين شخصية الأكاديمي والشاعر التونسي صالح القرمادي (1933 - 1982)، حيث من الصعب أن نجد له أثراً توثيقياً واضحاً مقابل اعتباره من قبل شرائح واسعة من المثقفين أحد آباء الثقافة التونسية الحديثة.
هناك نصّ للناقد التونسي الراحل توفيق بكار بعنوان "شعر لم يغتسل بإبريق" يتحدّث عن تجربة القرمادي الإبداعية، التي ظهرت مع ديوانه "اللحمة الحية" (1970)، ويمكن اعتبار هذا النص مثل حبل سرّي بين عالمين متوازييْن؛ فضاء الثقافة الرسمية وعوالم الهامش.
يُظهر بكّار القطيعة التي أحدثها القرمادي في مسار الكتابة الشعرية التونسية، حين يخرج عن ذلك التقليد للشعر المشرقي، بما في ذلك تجربة أبي القاسم الشابي، في احتفائها بالتيارات التقليدية أو الطليعية على حد السواء، منتصراً لنوع من الكتابة ينهل من المفردات التي تحيل إلى أشياء ملموسة في الواقع حتى لو استهجنتها الذائقة الأدبية المدرّبة، وقد برزت من خلال ذلك لهجة هازئة بمختلف المسلّمات والقواعد.كان بكّار يكتب عن القرمادي انطلاقاً من معرفة شخصية، فالرجلان جمعتهما هموم التأسيس للمعرفة من خلال الجامعة أو من خلال الاشتباك مع الناس وقضاياهم، من الأدب إلى السياسة. كما جمعتهما مشاريع أخرى، مثل "مجلة التجديد" التي أدارها بالاشتراك مع المنجي الشملي. وكان هؤلاء راهنين في اطلاعهم العلمي وحريصين على تمرير معارفهم إلى الأجيال اللاحقة.
تخصّص القرمادي في اللسانيات، ولعلّه وهو يفعل ذلك في خمسينيات القرن الماضي كان أحد أوائل العرب الذين انشغلوا بنظرياتٍ لا تزال طريّة العود في منابتها الأصلية في الغرب، وإلى اليوم لا يزال يعترف الباحثون في هذا الاختصاص بأبويته، على الرغم من كونه لم يترك أثراً كتابياً يستندون إليه، مثله في ذلك مثل مؤسس اللسانيات الحديثة فرديناند دي سوسير.
في زمن الحزب الواحد، كان الأكاديمي التونسي أحد الأصوات الجريئة داخل الجامعة، ومن خلالها وصلت إلى المجتمع التونسي أطروحات ومفاهيم لعلّها كانت سبباً مباشراً في حالة الغليان الثقافي التي عاشتها البلاد بين نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، وهي الفترة التي شهدت شيخوخة الرئيس حبيب بورقيبة ودخول المقرّبين منه في صراع محموم على خلافته.
حين نضجت الثمرة التي حرص القرمادي على سقايتها، رحَل بشكل مفاجئ في حادث مرور سنة 1982. اشتمّ كثيرون روائح سياسية غير أن البحث في هذا الاتجاه لم يكن ممكناً بحال، ولم يبق من صالح القرمادي غير ذكراه كمطلق للعقول في سماء النظريات والحريات، وتكسير القوالب في اللغة والشعر، ولا تفاصيل أكثر.