صالح العامري: ممتن لأولئك السرديين الحفاة

29 يونيو 2018
(صالح العامري، تصوير: العربي الجديد)
+ الخط -

يرى الشاعر العُماني صالح العامري (شناص، 1965) بأن إصرار الحالة الشعرية على المزاوجة بين الشعر والنثر، هو الذي يكوّن جسد النصّ، غير عابئ بتلك التمايزات أو الفروقات الحادة المفتعلة بين السرديّ والشعريّ، وأن مجموعته الشعرية الأولى كانت انجرافاً متعطشاً إلى قول جميع الأشياء دفعة واحدة، مشبهاً الأمكنة كشاعر جاهلي بالوشم والدمغة الأبديتين.

صاحب "مراودات" (1994) الذي حصل مؤخراً على الجائزة المستقلة "الإنجاز الثقافي البارز" في عُمان في دورتها التاسعة يصفها في حديث لـ "العربي الجديد" بأنها: "جائزة هامشية معنوية ورمزية جادة، تُعطى لنصوص وتجارب هامشية، ويكفيها ذلك مقاماً وشرفاً رفيعين، بعيداً عن شراهة المتن وديباجاته المعهودة وأن الحصول على جائزة من هذا القبيل، نوع من الانتصار لتلك التجارب المنخلعة من سطوة النمط والسائد، وتلك الكتابة التي يظنها البعض- في جور بيّن- منبتة الصلة عن الجذور ومتعالية على الأصل والنموذج أحياناً، ومارقة ومجدفة ومتغربنة وحاطبة في الظلام في أحايين أخرى".

غير أنه، في المقابل، أبدى أسفه أن يتوافق حصوله عليها "مع نبأ رحيل صديقي الشاعر محمد الحارثي، وأن يُسجن الكاتب والسينمائيّ عبدالله حبيب، (أفرج عنه في ما بعد)، واصفاً الجائزة بأنها "مخيفة، لأن اثنين من الحاصلين عليها (القاص والروائي أحمد الزبيدي 2013، والشاعر محمد الحارثي 2014) قد رحلا عن دنيانا الفانية، وآخر في السجن (عبدالله حبيب، 2011)، وآخر مصاب بقلبه ناهضاً في السخرية من الحياة وأدوائها (الفنان محمد نظام 2016)، وآخر معتل في قدميه مناضلاً بنبل وشجاعة ضد ما يوقف عجلة الروح الإنسانية الحرة (القاص والروائي محمد عيد العريمي 2015)، إلى آخر تفاصيل الأوصاب والجراح التي تمسّ أو مسّت الفائزين بها في دوراتها المتعاقبة".

يعود صاحب "خطاط السهو" (2001) في حديثه مع "العربي الجديد" إلى بدايات دراسته في جامعة القاهرة، منتصف الثمانينيات: "هو القرويّ القادم من بلدة صغيرة في أقصى شمال عُمان، والذي لم يعهد في أفقه هذا الزحام وهذا الدفق المحتشد والإيقاع الصاخب من ذي قبل، عدا صخب وإيقاع البحر"، مأخوذاً "بتلك المناخات التي وفّرتها لي تلك المدينة العريقة، وفسيفساء ثرائها الثقافيّ والمعرفي، بمكتباتها وندواتها ومسارحها ومجلاتها وأجوائها الثقافية وأناسها البسطاء الذين تركوا آثاراً لا تُمحى في داخلي، مورَّطاً بذلك الرأس الملتبس واليافع، مخفوراً بتلك الأسئلة العارية وبالمصاحبات القرائية والحلمية التي تشدّ الأزر وتعمّق التجربة".

ويبدو أن مرحلة القاهرة قد أثّرت على تجربة الشاعر ورؤيته لشكل القصيدة التي يحلم بكتابتها متوقفاً عند أهم محطاتها: "مع نهاية العام 1988 بدا لي أن الطلاق مع القصيدة العمودية أمرٌ حتميّ، ولذلك التجأتُ إلى كتابة قصائد التفعيلة متخففاً من أعباء العمود ومعماره الصارم، أما في مطلع التسعينيات، وفي تسارع واضح، اتضحت لديّ شهوة الانتصار لقصيدة النثر وحساسيتها الإبداعية والتقائي الجارف مع آثارها الشعرية".
ويشير العامري إلى أن ما يسميه بالانتصار قد أثمر عن مجموعته الأولى "مراودات" التي قام بتوزيع نسخ ورقية منها لثلة من الأصدقاء غير راغب في طباعتها: "كان ذلك يكفيني ويرضي غروري في نشر تلك الحكّة الشعرية آنذاك، لكن حدث في العام 1994 أن التقيتُ الكاتب والسينمائي عبدالله حبيب الذي حرضني على طباعة المجموعة ورقياً، في دار الرؤيا للنشر".

أما عن ردود الأفعال التي لقيتها المجموعة، التي شكلت حينها ما يشبه "النحت في الصخر" على مستوى اللغة، ووجدت صعوبة في التلقي حتى من قبل عدد من شعراء "قصيدة النثر"، فيقول صاحبها: "اللغة الشعرية هي حقل استيهامات ومواضعات متحولة، وليس منوطاً بالشاعر أن يسمي الأشياء بأسمائها كما في العلاقة بين الله وآدم، بل أن يغسل تلك الأشياء كل مرة ويستنطق وجوهها العديدة، مستفيداً من الرزق الشعريّ الذي تمنحه الهذيانات والأحلام والبلاهات والطفولات والتشظيات والرضوض المتناثرة فيه وفي ما حوله"، مشيراً في هذا السياق أن مراودته الأولى "كانت أكثر من مجرد اتكاء مسرف على اللغة، كانت اللغة في تلك المجموعة رهاناً جمالياً على قدرات قصيدة النثر المتجددة والمتحولة، خصوصاً في تلقفها لإمكانات غير جرسية وغير برّانية، بل من صميمها وداخلها وجوهرها، كان ذلك شرف المحاولة على أية حال، بكل أخطائها وتغضناتها وأشواقها الملحاحة".

يبدو أن الشاعر بقدر ما يُمكنه "النحت في الصخر"، فإنه قادر في اللحظة الشعرية ذاتها على "الغَرْف من البحر"، فأثناء إجراء هذا اللقاء اطلعنا على مسوّدة أولية تعود إلى أواخر التسعينيات، لنص طويل ثيمته الحب بعنوان "وجه القُبلة"، بدا متخففاً من اشتغالات "مراودات"، وعنه يقول الشاعر: "النص نتاج تجربة عنيفة وقاسية، على المستوى الشخصيّ والعاطفيّ، ورغم أنّ امرأة واحدة دون سواها هي التي ألهمتني كتابة تلك اللوعات والتنهدات، فقد وجدْتُني أنزلق، في تذكرٍ حنينيٍّ، إلى استدعاء صور نساء أخريات، ما زالت حبالي السرية مشرعة بيني وبينهن، في زمن الشعر وفي نشوته الغامضة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، أو أرتطم بما هو أسوأ من الحياة أو الموت".

وأضاف صاحب "فرجار الراعي- تفرسات في الشهوة والجرح والرذاذ والمشائين والأشجار الكثة" (2015) بأن علاقته مع "قصيدة النثر"، تأتي ضمن "الكتلة النصيّة التي تشدني أحياناً؛ لممارسات ذوقية، أو من زاوية إصرار الحالة الشعرية على المزاوجة بين الشعر والنثر، معلياً ذلك الدفق بتضامّات واحتشادات نصيّة لا تتأتّى إلا عبر تلك الخِلقة أو الشكل. ربّما أكون مكترثاً، في استخدامي للأسطر الموزعة أو التجائي للكتلة، بأن تنشحن تلك البروق والجذاذات الشعرية بتلك الالتقاطات والرقع السردية، لتكوين جسد النصّ، غير عابئ بتلك التمايزات أو الفروقات الحادة المفتعلة بين السرديّ والشعريّ".

ويشرح صاحب "سلالم صوب الولع" (2011)، هذا التواشج بالقول: "هناك الكثير من الكُتاب العرب الذين اغتنت تجاربهم السردية انطلاقاً من حساسيتهم الشعرية ومن الرؤى الشاقولية التي توفرها المناخات الشعرية، وآخرون اغتنت تجربتهم الشعرية بسببٍ من فتيل انشغالاتهم الفنية والإبداعية المتنوعة، وبالنسبة لي فهو خيار جماليّ أن يتواشج هذان البئران لالتقائهما في ذات المقلع ولطلوعهما من ذات الرحم في الأصل. وشخصياً، ممتن لأولئك السرديين الحفاة الأقدام، الذين تركوا آثارهم مثل طيور القطا على أديم الرمال الخالدة، مستهدياً بكشافاتهم اللغوية ومصابيحهم التي لا تنطفئ ولا تنام".

وعن أثر الرمل هذا، يلتفت صاحب "بريد الغابة وحيوانات أخرى" (2015) إلى أثر المكان مقارنة بالزمان: "إنّ لعنة الأزمنة وتبدلاتها وتغيراتها الموحشة أقل حدة ومرارة من لعنة الأمكنة. فإذا كانت الأمكنة دماراً وخراباً أنّى ذهب الشاعر، كما يرى كفافيس، فإنّ الأزمنة أخفّ وطأة من تلك الأمكنة اليباب وأسلس في الانزلاق من مادية الأمكنة وخصائصها الدبقة، حيث يتأتّى للكائن أن يعيش تبدلات وتحولات الذات في أي لحظة زمنية، جذلة أو يائسة، مفعمة بالملهاة أو مترعة بالمأساة، أمّا الأمكنة فتبقى مغروسة في الخاصرة، لا تغادر إلا حين تمتقع الصورة أو تتبدد أو تنفجر، ذلك لأنّ الزمان ارتحال في الأصل، أمّا المكان فموطئ أقدام وسكنى، الزمان تحولات وتبدلات، أما المكان وشم ودمغة أبديتان".

المساهمون