شُبرا.. أيّامٌ تمضي.. أيّام

10 مايو 2017
(أمام مبنى الأمن القومي/ شُبرا، تصوير: خالد دسوقي)
+ الخط -
شُبرا!… دنيا!

واصلتُ اللَّعب مع الأقرانْ

لولا، يرغو، جابي، عوني

أيّامٌ تمضي.. أيّام

أحببت صديقي سامي من أرض الشامْ

لم أعرف ساعتها من سوريّة، يافا أو لبنانْ

في هذه المساحة الشعرية التي اختتم بها الروائي المصري، نعيم صبري، روايته: "شُبرا"، والتي تغطّي فترة الخمسينيات من القرن الماضي، فترصّد فيها ظاهرة هجرة الأجانب من شُبرا، ومن مصر كلها، واختفاء الطابع الكوزموبوليتاني عنها، مثل غيرها من الأحياء، التي تعدّدت فيها الجنسيات والأعراق والديانات.

فيستعيد في فضائه الأدبي خلق العوالم المنسية، واكتشاف الأثر المهمل، في سردية ممتعة تتماس فيها الخبرة الشخصية والاجتماعية معًا؛ فهو ينتمي بذاكرته إلى هذا الحي، المولود فيه أواسط الأربعينيات، واحتفظ معه بتفاصيل غنية وحميمية عن أوضاعها الاجتماعية وتنوعاتها الفكرية والثقافية والإنسانية، وزخم شخصياتها المؤثّرة في التاريخ السياسي والثقافي والفني المصري، أمثال، المخرج هنري بركات، والشيخ الأزهري محمد أبو زهرة، والبابا شنودة "نظير جيد"، والفنانة المصرية الإيطالية داليدا. قبل ابتلاعها في موجات الزمن الهادرة وتحوّلاتها الصعبة.

ارتبط نشوء حي شُبرا بعمليات التحديث التي قام بها محمد علي، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فشيّد قصراً له في قرية شُبرا الخيمة، رافقها تطوّر عمراني وإداري واسع، حيث شقّ طريق شارع شبرا ليربط بين قصره والقاهرة، ومنذ ذلك الوقت بدأ العصر الملكي لشُبرا التي أصبحت موطنًا للقصور الريفية للأسرة العلوية، إلى أن تحوّلت القصور والسرايات لمدارس ومنشآت حكومية، بعد ثورة 23 يوليو 1952، وقد تخلّت عن طابعها الملكي.

حظيت شُبرا بتكوينات مختلفة عرقية وثقافية من أبناء المهاجرين، من البحر المتوسّط وشرق أوروبا، فضلًا عن الوافدين إليها من ريف ودلتا مصر، إذ ساهمت مشروعات التحديث التي دشّنها محمد علي، في جعلها منطقة لجذب العمال والحرفيين، من كافة أنحاء أوروبا بحثاً عن فرصة عمل.

فكانت الجاليات الأوروبية اليونانية والقبرصية والإيطالية ممن توطّنت في هذا الحي، ذات الطابع "البحر متوسّطي"، والمنتمين للطبقة الوسطى يعمل أبناؤها في عدّة مهن وحرف، تنوّعت بين "غرسونات" في المطاعم وأصحاب مقاهٍ ومحلّات خمور.

توثق بعض أسماء شوارع شبرا جانبًا من ميراثها التاريخي وارتباطها الثقافي والسياسي ببعض رموزها؛ فشارع أحمد حلمي الذي تحوّل إلى موقف سيّارات وسوق، يتّسم بالعشوائية والقبح، منسوب إلى صحافي مصري، جد الشاعر صلاح جاهين، وهو مؤسّس جريدة "القطر المصري"، كما كتب مع الزعيم الوطني مصطفى كامل، في صحيفة "اللواء"، وكان أوّل من اتهم بالعيب في الذات الملكية، وهي تهمة سياسية رائجة في سنوات الملكية بمصر.

ويعود اسم شارع فيكتوريا الذي يقع في قلب شُبرا، إلى ملكة إنجلترا، والتي جاءت إلى مصر وقامت بزيارة الحي، للاطمئنان على أحوال الجالية الأوروبية التي كانت تستوطنه.

عرف شارع شُبرا ظاهرة ارتداء شباب الجالية الإيطالية، وهي إحدى أكبر جاليتين في شبرا من حيث تعدادها السكاني وتأثيرها الثقافي والاجتماعي، القمصان السوداء، "رمز الفاشية"، في الأربعينيات، وإعلان انحيازهم لموسوليني، واستعراضهم ذلك بالدرّاجات البخارية.

بينما ما زالت بعض آثار الجالية اليونانية موجودة حتى اليوم، ممثلة بالنادي اليوناني الرياضي، والذي تم إنشاؤه في آخر شارع شبرا، كما كانت هناك شركة جناكليس للسجائر، وهي شركة يونانية.

تختزل سيرة المغنيّة العالمية داليدا، والتي ولدت من أبوين إيطاليين وعاشت في حي شُبرا، صورة مكثفة عن واقع كان لا يزال حتى النصف الأوّل من القرن العشرين وفي ذروة المد الاستعماري، يؤمن بالتنوّع والغنى ولا يعرف التشدّد والعزلة، عندما تقدّمت إلى مسابقة ملكة جمال مصر، وفازت باللقب عام 1954، ولم يقل أحد إنها ليست مصرية.

وكان يقع منزل داليدا، بحسب ما يقول الدكتور محمد عفيفي في كتابه: "شبرا، إسكندرية صغيرة في القاهرة"، على بعد مائة متر من كنيسة سانت تريزا الكاثوليكية، والتي كانت من أهم الكنائس المفضّلة للجالية الإيطالية في القاهرة، ويبعد نحو 200 متر من المدرسة الإيطالية الشهيرة، والتي تحوّلت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى مدرسة فيكتوريا.

ومثل داليدا، انتسب لحي شُبرا أحد أهم روّاد الفن السينمائي المصري، المخرج هنري بركات الذي ينتمي إلى أسرة شامية، هاجرت إلى مصر عام 1860، إبّان الحوادث الطائفية التي شهدتها بلاد الشام بين أتباع المذاهب والديانات المختلفة، والتي على أثرها هاجر الكثيرون من الشوام إلى مصر.

بدأت علاقة شُبرا بالسينما مبكرًا، وانتشر في شوراعها عدد كبير من دور العرض، مثل سينما شبرا بالاس، والأمير، وبلازا، وسينما روي، التي كانت تعرض الأفلام الأجنبية، وفريال، والنزهة. ففي عام 1910، وعبر ما يسمى بـ"غران سينماتوغراف". عرف أهالي شبرا سينماتوغراف شانتكلير لأوّل مرّة.

تخرّجت من مدارس شُبرا الشهيرة "التوفيقية" و"شبرا الثانوية"، أسماء احتلت مواقع بارزة في الذاكرة الوطنية، من النخبة السياسية والفكرية، مثل الناقد رشاد رشدي، والمؤرّخ رؤوف عباس والأديب يوسف السباعي، والمؤرّخ عزيز سوريال عطية، صاحب الموسوعة القبطية، والطبيب نجيب محفوظ، أحد أشهر أطباء مصر، في النصف الأوّل من القرن العشرين.

وشهدت مدارسها حركة طلابية انخرط طلابها في النضال والمظاهرات ضدّ الاحتلال الإنكليزي، وكانت التوفيقية شرارة لانطلاق تظاهرات الطلبة ضدّ الاحتلال الإنكليزي، لا سيما أثناء انتفاضة عام 1935، للمطالبة بعودة دستور 1923.

فخرج الطلاب في الشوارع، يهتفون "يسقط هور ابن التور"، في إشارة إلى صمويل هور، وزير الخارجية البريطاني، والذي أدلى بتصريح قال فيه إن دستور 1923 يجب ألا يعود.

ويصف المؤرّخ محمد عفيفي بلغة مأساوية المآل الذي وصلت إليه شُبرا، وقطيعتها القسرية مع تاريخها الذهبي تحت وطأة هجرة أخرى مغايرة، ذات طباع ريفية حادّة، تطمر التاريخ وتهدر قيمه وأصوله ولا تحافظ على تنوّعه، حتى الآثار والعمران القديم شوهت معالمه، فيقول: "شُبرا لم تعد حي البحر المتوسّط في القاهرة، ولم تعد حتى حي الثقافة والفنون، وحلّ القبح والعشوائية محل الجمال والرومانسية، ومع هذه التغيرات تغير البشر فيها".

المساهمون