تابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
06 سبتمبر 2023
شماطيط
كاتب عربي مقيم في بيروت
(إبراهيم الصلاحي)
أشهر القواميس العربية، بعد "لسان العرب"، هو "القاموس المحيط" للفيروز آبادي. لكن، مَن يعرف أن الاسم الكامل لهذا القاموس هو "القاموس المحيط والقابوس الوسيط في ما ذهب من كلام العرب شماطيط". والشماطيط جمع شمطاط، أي المتفرّق. ويقال: جاءوا شماطيط أي متفرقين. وفي العامية الشامية، تتردّد كلمة "تْشَمْطَطْنا"، أي تفرّقنا بعد عذاب. سأحاول أن أجمع الكلام المتفرّق في أُضمومةٍ واحدةٍ، لعلها تستخلص وقائع أحوالنا الجارية.
* يمتلك الإنسان، على ما يُقال، ثلاثة أدمغة: الغريزي والانفعالي والمعرفي. ويشترك الإنسان والحيوان في الدماغين الأولين مثلما يشتركان في شرب الماء. أما الثالث فينفرد الإنسان به وحده. لكن قلةً من الناس، مع الأسف، تستعمل الدماغ المعرفي استعمالاً خصباً. فالجامعات العربية تخرّج سنوياً آلاف الأطباء والمهندسين والتقنيين. وتستورد الدول العربية سنوياً آلاف الخبراء من الغرب وكوريا وتايوان والهند. أين يذهب الخريجون العرب إذاً؟ إنهم، بكل بساطة، يُهاجرون.
ما برحت هذه البلاد، على الرغم من العصرنة التي اجتاحتها منذ مئة عام على الأقل، شعوباً رعويةً مهاجرة. فإذا كان ديدنها في الماضي الدوران في الأمكنة بحثاً عن الماء والكلأ، فهي ما انفكّت على هذا المنوال حتى اليوم، وها هي تبحث، لا عن الماء، بل عن الهوية. وحين لا تروقها حقيقة هويتها، تخترع الروايات الهاذية عن أصولها العظيمة.
يروي كارل ماركس في مقالة نشرها في مجلة نيويورك تريبيون (11/7/1853)، وتُرجمت إلى العربية في كتاب "المسألة الشرقية" (بيروت: دار الحداثة، 1980) ما يلي: "كان اثنان من علماء الطبيعة الايرانيين يتفحصان دبّاً. فسأل الأول الذي لم يكن قد رأى دباً من قبل: هل تتكاثر الدببة بالإباضة أم بالولادة؟ فحار الثاني، وكان أكثر علماً منه: وأجاب: هذا الحيوان قادر على كل شيء". ويعلِّق ماركس على هذه الحكاية بالقول: الدب الروسي قادر على كل شيء، مادام يعرف أن خصومه من الحيوانات الأخرى عاجزةً عن كل شيء. وبعد نحو 130 عاماً حمل فاروق الشرع إلى السيد خامنئي، وكان رئيساً لإيران في أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، رسالةً من الرئيس حافظ الأسد، تطالبه بالتوقف عن قصف السفن السعودية والكويتية، فأجاب خامنئي: إن الله هو الذي يقصفها. فقال له الشرع: إذاً، لتدعُ الله في أثناء الصلاة أن يكفّ عن رمي الصواريخ على هذه السفن. وبعد إلحاحٍ، قال خامنئي إنه سيرجو الله أن تتوقف الصواريخ قريباً. وبالفعل، توقفت حرب السفن. وحين يُذكر اسم المهدي، وهو الإمام الشيعي الثاني عشر، يُردف دائماً بعبارة "عجّل الله فرجه". لكن الايرانيين يلفظونها هكذا: "أجَّل الله فرجه".
العبودية هي أعظم مرحلة في التاريخ البشري، فأهلاً بالعبودية مجدّداً ومرحى. وكثيراً ما يحتدم النقاش في شأن التاريخ وغايته، وهل للتاريخ غايةٌ حقاً. وأظن أن التاريخ ليس عقلاً لتكون له غاية. وعلى الرغم من ذلك، سأقبل الفكرة القائلة إن الحرية هي الغاية الأولى للتاريخ. وبهذا المعنى، فإن التاريخ ما هو إلا تاريخ الحرية الغائبة، أي تاريخ العبودية. ويلوح لي أن التاريخ البشري بدأ في اللحظة التي انتقل الإنسان فيها من عصر الافتراس إلى عصر العبودية. وقد حدثت هذه الثورة التاريخية غداة التحوّل من الجماعات الصائدة إلى الجماعات الزارعة. فبدلاً من أن يقوم الأقوى بافتراس الأضعف، يأسره ويستخدمه عبداً. العبودية بالأمس أرحم من الافتراس اليومي في سورية والعراق واليمن.
أمرُّ بالأماكن مثل راكب القطار السريع. أحدّق بالمدى وأرى المنازل والناس وهي تتراكض بسرعةٍ إلى الوراء، فلا تستقر عيناي على أي مشهد، ولا تحتفظ ذاكرتي البصرية بأي تفصيلات. كأنني لستُ جزءاً من هذا المكان، بل أنا موجود فيه فحسب. يا للمرارة.
* يمتلك الإنسان، على ما يُقال، ثلاثة أدمغة: الغريزي والانفعالي والمعرفي. ويشترك الإنسان والحيوان في الدماغين الأولين مثلما يشتركان في شرب الماء. أما الثالث فينفرد الإنسان به وحده. لكن قلةً من الناس، مع الأسف، تستعمل الدماغ المعرفي استعمالاً خصباً. فالجامعات العربية تخرّج سنوياً آلاف الأطباء والمهندسين والتقنيين. وتستورد الدول العربية سنوياً آلاف الخبراء من الغرب وكوريا وتايوان والهند. أين يذهب الخريجون العرب إذاً؟ إنهم، بكل بساطة، يُهاجرون.
ما برحت هذه البلاد، على الرغم من العصرنة التي اجتاحتها منذ مئة عام على الأقل، شعوباً رعويةً مهاجرة. فإذا كان ديدنها في الماضي الدوران في الأمكنة بحثاً عن الماء والكلأ، فهي ما انفكّت على هذا المنوال حتى اليوم، وها هي تبحث، لا عن الماء، بل عن الهوية. وحين لا تروقها حقيقة هويتها، تخترع الروايات الهاذية عن أصولها العظيمة.
يروي كارل ماركس في مقالة نشرها في مجلة نيويورك تريبيون (11/7/1853)، وتُرجمت إلى العربية في كتاب "المسألة الشرقية" (بيروت: دار الحداثة، 1980) ما يلي: "كان اثنان من علماء الطبيعة الايرانيين يتفحصان دبّاً. فسأل الأول الذي لم يكن قد رأى دباً من قبل: هل تتكاثر الدببة بالإباضة أم بالولادة؟ فحار الثاني، وكان أكثر علماً منه: وأجاب: هذا الحيوان قادر على كل شيء". ويعلِّق ماركس على هذه الحكاية بالقول: الدب الروسي قادر على كل شيء، مادام يعرف أن خصومه من الحيوانات الأخرى عاجزةً عن كل شيء. وبعد نحو 130 عاماً حمل فاروق الشرع إلى السيد خامنئي، وكان رئيساً لإيران في أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، رسالةً من الرئيس حافظ الأسد، تطالبه بالتوقف عن قصف السفن السعودية والكويتية، فأجاب خامنئي: إن الله هو الذي يقصفها. فقال له الشرع: إذاً، لتدعُ الله في أثناء الصلاة أن يكفّ عن رمي الصواريخ على هذه السفن. وبعد إلحاحٍ، قال خامنئي إنه سيرجو الله أن تتوقف الصواريخ قريباً. وبالفعل، توقفت حرب السفن. وحين يُذكر اسم المهدي، وهو الإمام الشيعي الثاني عشر، يُردف دائماً بعبارة "عجّل الله فرجه". لكن الايرانيين يلفظونها هكذا: "أجَّل الله فرجه".
العبودية هي أعظم مرحلة في التاريخ البشري، فأهلاً بالعبودية مجدّداً ومرحى. وكثيراً ما يحتدم النقاش في شأن التاريخ وغايته، وهل للتاريخ غايةٌ حقاً. وأظن أن التاريخ ليس عقلاً لتكون له غاية. وعلى الرغم من ذلك، سأقبل الفكرة القائلة إن الحرية هي الغاية الأولى للتاريخ. وبهذا المعنى، فإن التاريخ ما هو إلا تاريخ الحرية الغائبة، أي تاريخ العبودية. ويلوح لي أن التاريخ البشري بدأ في اللحظة التي انتقل الإنسان فيها من عصر الافتراس إلى عصر العبودية. وقد حدثت هذه الثورة التاريخية غداة التحوّل من الجماعات الصائدة إلى الجماعات الزارعة. فبدلاً من أن يقوم الأقوى بافتراس الأضعف، يأسره ويستخدمه عبداً. العبودية بالأمس أرحم من الافتراس اليومي في سورية والعراق واليمن.
أمرُّ بالأماكن مثل راكب القطار السريع. أحدّق بالمدى وأرى المنازل والناس وهي تتراكض بسرعةٍ إلى الوراء، فلا تستقر عيناي على أي مشهد، ولا تحتفظ ذاكرتي البصرية بأي تفصيلات. كأنني لستُ جزءاً من هذا المكان، بل أنا موجود فيه فحسب. يا للمرارة.