شقوق في جسد المجتمع المصري

18 يوليو 2020
+ الخط -

وقعت خلال الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) عدّة حوادث، شغلت الرأي العام المصري، واحتّلت الصدارة في الفضاءين، الإعلامي والافتراضي، فقد شهدت مدينة طلخا في الدقهلية جريمة بالغة الخسّة والبشاعة، فقد اتفق زوج مع عامل لديه على تسلل الثاني إلى بيت الأوّل ومحاولة اغتصاب زوجته، بغرض اختلاق واقعة للطعن في شرف الزوجة، تمنح الفرصة للزوج لتطليقها، بيد أن مقاومة الزوجة محاولة اغتصابها أدّت إلى سقوطها قتيلة، والأشدّ ألماً بحقّ أن الزوج اعترف في التحقيقات بأنه اتفق مع شريكه على اغتصابها فقط من دون قتلها (!).

وقبل أيّام، أمرت النيابة العامة بحبس شاب عشريني، عُرف إعلامياً بـ"متحرّش الجامعة الأميركية" على ذمّة التحقيقات، لاتهامه بالشروع في مواقعة فتياتٍ بغير رضاهنّ، وتهديدهنّ وأخريات بإفشاء ونسبة أمور لهنّ خادشة لشرفهن. وقد اعترف الشاب أمام النيابة بتعرّفه، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على ستّ فتيات، واستدراجهنّ وتهديدهنّ بغرض دفعهن إلى الفسق والرذيلة.

يعاني المجتمع المصري من انقساماتٍ رأسية، وأفقية، جعلته أشبه بجزر منعزلة، يرزح تحت أزماتٍ كبيرةٍ

وبعد اشتعال الجدل في المجال العام في مصر عن التحرّش، نشرت الصفحة الرسمية لدار الإفتاء المصرية في "فيسبوك"، منشوراً، استنكرت فيه إلصاق جريمة التحرّش بملابس المرأة، وقالت إنه تبرير واهم، لا يصدر إلا عن ذوي النفوس المريضة والأهواء الدنيئة. وأكّدت على أن المتحرّش جمع بين منكريْن : استراق النظر وخرق الخصوصية. وكانت التعليقات على هذا المنشور كارثية، وصلت إلى حدّ تطاول بعضهم على دار الإفتاء، وإمطارها بسيل من الشتائم والبذاءات.

وأصدرت، أخيرا، المحكمة الإدارية العليا حُكماً، بمعاقبة مدير إدارة تعليمية بوقفه عن العمل وصرف نصف الراتب، لتقاعسه عن اتخاذ الإجراءات القانونية حيال واقعة تحرّش تلاميذ مدرسة إعدادية بمعلّمة، وسجّلت المحكمة، في حيثيات حُكمها، الدور السلبي للفنّ، المتمثّل في أفلام البطل الفوضوي، وأقوال الفُحش والرذيلة، وكلمات الإيحاءات الخارجة لأغاني المهرجانات. وقالت المحكمة إن ذلك الدور هو الذي أوصلنا إلى تحرّش تلاميذ مدرسة إعدادية بمعلّمتهم، في سلوكٍ يمثّل ثمرة تشويه فكري، وأخلاقي، وديني. وفي هذه الأثناء، استمرّ مسلسل إلقاء الشرطة المصرية على ما يعرفن إعلامياً "فتيات التيك توك"، اللاتي أمرت النيابة العامة بحبسهنّ، بتهمة الاعتداء على قيم ومبادئ أُسرية في المجتمع المصري. 

ماذا حدث للمصريين؟ السؤال الذي يفرض نفسه، طرحه الراحل جلال أمين في نهاية التسعينيات، في كتاب له، محللّاً تطوّر المجتمع المصري في نصف قرن. وتشير نوعية الجرائم الجنائية إلى أمراض اجتماعية، وتمثل هذه الجرائم ظواهر جديدة في المجتمع المصري تستحقّ التوقّف طويلاً، فهي تُظهر شقوقاً وصدوعاً اجتماعية خطيرة، ضربت جسد المجتمع، وتكشف بوضوح عن تغييرات كارثية عصفت عصفاً بالبنية القيمية والأخلاقية للمجتمع، أوصلته إلى حالة خطيرة، تقف به على شفا جُرفٍ هارٍ، فمن كان يتصوّر أن يُقدم زوج على اختلاق واقعة للطعن في شرف زوجته، أو يقوم تلاميذ بالتحرّش الجماعي بمعلّمتهم؟!

تجاهل الخطاب الرسمي ضرورة إصلاح المجتمع الذي يعاني من انقساماتٍ رأسية، وأفقية، جعلته أشبه بجزر منعزلة

في السنوات الأخيرة في مصر، وتحت وطأة تصوّر يقوم على أن قوّة الدولة هي المعيار الوحيد للازدهار وتَبَوّؤ الصدارة في المشهديْن، الإقليمي والدولي، دأب الخطاب الرسمي على "التمركز حول الدولة"، عبر التشديد على ضرورة حمايتها، والحفاظ عليها، واستعادة هيبتها والدفاع عن مؤسسّاتها (وهذا كلّه لا غبار عليه)، في حين أنّه يتجاهل تماماً الحديث عن ضرورة إصلاح المجتمع الذي يعاني من انقساماتٍ رأسية، وأفقية، جعلته أشبه بجزر منعزلة، ويئنّ ويرزح تحت أزماتٍ كبيرةٍ وعديدةٍ تنشب فيه أنيابها ومخالبها، وتتنازعه وتخنقه، يشتبك فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي، فضلاً عن التدهور الكبير في منظومته القيمية والأخلاقية.

قبل عقود، كتب عالِم السياسة الأميركي، جول ميجدال، كتابه عن إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع، وضع فيه عدّة معايير لتصنيف الدول والمجتمعات، خلص منها إلى أنّ حالات ضعف المجتمع تكون مقدّمات لانهيار كلّ من الدولة والمجتمع، فقوّة المجتمع هي الأساس، بغضّ النظر عن مدى قوّة الدولة أو ضعفها، لأنّه بدون قوّة المجتمع لن يكون في استطاعة الدولة البقاء والاستمرار، فالاهتمام بالمجتمع يتقدّم على الاهتمام بالدولة، لأنه أساس البنيان الذي تقوم عليه الدولة. وإذا ما تفكّك نسيج المجتمع وتمزّقت أواصره، وتمكنّت منه القوارض الاجتماعية (حسب تعبير مالك بن نبي)، وأحالته إلى عدّة مجتمعاتٍ لا يربطها رابط، أدّى ذلك إلى انهياره وانهيار الدولة، مهما كانت قوّتها. ويشهد التاريخ على سقوط إمبراطورياتٍ عديدة، كانت غاية في القوّة، عندما ضربت معاول الهدم في بنية مجتمعاتها، كما يشهد على دول أخرى سقطت ثمّ عادت بكامل قوّتها، بسبب قوّة المجتمع وتماسكه وقدرته على الصمود واستعادة الدولة. 

في السياق نفسه، يُخبرنا التاريخ إن الاستثمار في البَشر يتقدّم بمراحل على الاستثمار في الحَجر، فبناء الإنسان أهمّ من بناء العمران. وهنا يقول رائد المدرسة الإصلاحية الشيخ محمد عبده: "من يريد خير البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية، وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه بدون إتعاب فِكر ولا إجهاد نفس .. أمر التربية هو كلّ شيء وعليه يُبنى كلّ شيء".

الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع توجيه الجهود إلى إعادة هيكلة المنظومة التعليمية الحكومية التي تعاني حالة متردّية من الفشل الوظيفي

الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع تكون بتوجيه الجهود إلى إعادة هيكلة المنظومة التعليمية الحكومية التي تعاني حالة متردّية من الفشل الوظيفي، فما نراه من آفاتٍ أخلاقيةٍ واجتماعية هو نتاج طبيعي لانهيار التعليم، فجودة المخرجات تكون بجودة المدخلات نفسها، وليس من دولة فيها أربعة أو خمسة أنظمة تعليمية في مرحلة التعليم الأساسي، فهذا من شأنه تكريس الانقسامات الاجتماعية والطبقية والمعرفية، في مشهد لم يعرفه تاريخ مصر الحديث، ففي العهد الملكي الذي يضرب بعضهم به المثل في الفوارق الطبقية، كان أبناء الباشوات يلتحقون بالمدارس الحكومية، لأنها كانت على درجة كبيرة من الجودة، وهو ما انعكس على مُنتَج المنظومة التعليمية في الحقبة الليبرالية. ونسمع في الأفلام القديمة عبارات لها دلالات مثل "راسب توجيهية"، فوصول الطالب إلى مرحلة الثانوية العامة كان في حدّ ذاته شهادة له.. ولو لم يحصل عليها (!).