07 سبتمبر 2019
شعب الجبّارين
أحمد الكومي (فلسطين)
مرت عشر سنين، وصار عمر الطفل الذي ولد في الانقسام عشر سنين.
السنة الأولى، كان الفِطام على عدوان 2008. واكتمل نموّه في السنة الخامسة على حرب الأيام الثمانية. وفي السابعة، تعلّم الصلاة على جثمان أكثر من ألف شهيد في عدوان 2014.
لا أعلم إذا ما كنت وحدي من استرعى انتباهه المسميات التي أحدثتها المأساة فينا: جيل النكبة، جيل أوسلو، فجيل الانقسام.. مارس فينا الجميع طقوسهم.
صار الوطن ضفة وقطاعا، وتفرقت الوطنية على 12 فصيلا، وحديث العائلة تمّ ضبطه على ميقات الرغبة الحزبية.
يخبرنا التاريخ عن زعماء قدّموا نماذج في الوفاء لشعوبهم وللأجيال من بعدهم، وسجّلوا فضائل سياسية بقيت، مع الأسف، حبيسة مذكّراتهم، نكتفي باستدعائها مع حلول ذكراهم.
ياسر عرفات، بصرف النظر عن رأي "الآخرين" فيه، إلا أن الفضل ينسب له في أنه أوجد للشعب الفلسطيني اللاجئ، والمثخن بالجراح.. هوية ثائر.
رحل أبو عمار، وهو يعتزّ بأنه قال "لا" كبيرة للرئيس الأميركي، بيل كلينتون. وحين حاول الأخير تهديده بادره أبو عمار قائلا: "إذا أردتّم التهديد، فأنا أدعوكم للسير في جنازتي". كان ينادينا: "أنتم شعب الجبّارين"، ثم يتلو كعادته في نهاية خطابه: "وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة".
لماذا نجد أنفسنا اليوم في أمسّ الحاجة إلى الطابع العرفاتي في القيادة الحالية التي أصبحت في مواجهة الشعب، بعد أن كان في ظهرها، وأوصلت الفلسطيني إلى مرحلةٍ بات لا يأمن فيها على نفسه، لأن يقول ما هو جائز شرعا، مرفوض حزبيا.
انسحبت من قاموسنا مفردات الثورة التي كان يردّدها جيل الانتفاضة، وحلّت مكانها مفردات البنوك المصرفية. وانغمس "جيل أوسلو" في دوّامة من المهاترات، غرقت في خضمّها المبادئ الإنسانية.
ومن جيل الانقسام، لا نسمع إلا الكلمات النابية التي بدأ في مرحلة التقليد اللغوي يرددها مما يسمعه في بيانات الأحزاب السياسية.
كان الإعلام الغربي يطلق اسم "انتفاضة الأطفال" على أحداث عام 1987؛ لأن الشباب كان يتحلى بروح ثائرة ألهمت الكبار ودفعتهم للفعل والمشاركة. لذلك، مغفّل من يعتقد أن ثلاثة حروب شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة، وحصار خانق، كان يستهدف إعادة قطعة أرض انسحبوا منها، إنما هي حروب تستهدف وعي هذه الأجيال.
وليس أسهل على عدوّنا من تغيير أفكارنا ومدركاتنا للصراع، صنع لنا الانقسام في غزة. وفي الضفة الغربية والقدس، يمارس حرباً ناعمة. يُغيّر أسماء شوارع وقرى عربية إلى أسماء عبرية تلمودية. "هار حماه" هو الاسم الجديد لقرية دير ياسين التي نفّذ فيها مناحيم بيغن المذبحة، ثم اقتسم مع أنور السادات جائزة نوبل للسلام.
هذا لنعرف أن إسرائيل حرقت وعي العالم أيضاً. وضعت بين أيدي أجيالنا في القدس كتبا محشوّة بالأفكار التي تعزّز الرواية الإسرائيلية، ضمن محاولات أسرلة المنهاج الفلسطيني، وتهويد التعليم.
حكمت إسرائيل بإعدام قصيدة الثائر والشاعر الفلسطيني، عبد الرحيم محمود: "سأحمل روحي على راحتي .. "، وأصبحت القدس عاصمة إسرائيل. ثم حين سئل وزير التعليم الفلسطيني صبري صيدم: أي نظام تعليمي نريد؟ أجاب: نريد تعليماً يصنع التحرير.
نحو مليون وأربعمائة ألف شاب في عمر 15-29 عاما، يعيشون في يومنا هذا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويشكلون 30 % من السكان الفلسطينيين، هم الآن بالغون يحملون أمنية عجوز يموت، ويرفضون واقعهم كما يرفضون الشيخوخة.
وإلى جوارنا، يشبّ الإسرائيلي جنديا في سن الثامنة عشرة، مرفّها، سعيدا بقدره، ويتخرّج ورأسه مزدحمة بكتيبة من الشياطين ضدنا.
لم يعد الاختلاف مُجدياً على مستقبل الدولة أو جغرافيتها، لأن الفلسطيني بات مثقلا بتكاليف الخلاف عليها. كما من المحظور جدا تجاهل أن جيل النكبة يودعنا، فيما الأجيال من بعده بدأت بالفعل تنسى.
علينا أن نضع الخطط الاستراتيجية في كيفية استثمار الأجيال، بقدر اهتمامنا وانشغالنا باستثمار الأموال والعُمران؛ لأن "الشباب إذا لم يشتركوا في صنع الحياة، فهنالك آخرون سوف يجبرونهم علي الحياة التي يصنعونها". يتوجّب أن تدفعنا هذه الأسباب إلى الوحدة وطنيا، وإعلاء معاني التسامح، أن نملك جرأة الزعيم مانديلا: الشعب الشجاع لا يخشى المسامحة.
لا بد أن نتوقف عن طرح الأعذار، وأن نتحلّى بالجرأة للاعتراف بأن الأجيال كلّها تتنفّس بقلة صبر، ناقمة على غصن الزيتون، ومكتملة الألم من البندقية.
السنة الأولى، كان الفِطام على عدوان 2008. واكتمل نموّه في السنة الخامسة على حرب الأيام الثمانية. وفي السابعة، تعلّم الصلاة على جثمان أكثر من ألف شهيد في عدوان 2014.
لا أعلم إذا ما كنت وحدي من استرعى انتباهه المسميات التي أحدثتها المأساة فينا: جيل النكبة، جيل أوسلو، فجيل الانقسام.. مارس فينا الجميع طقوسهم.
صار الوطن ضفة وقطاعا، وتفرقت الوطنية على 12 فصيلا، وحديث العائلة تمّ ضبطه على ميقات الرغبة الحزبية.
يخبرنا التاريخ عن زعماء قدّموا نماذج في الوفاء لشعوبهم وللأجيال من بعدهم، وسجّلوا فضائل سياسية بقيت، مع الأسف، حبيسة مذكّراتهم، نكتفي باستدعائها مع حلول ذكراهم.
ياسر عرفات، بصرف النظر عن رأي "الآخرين" فيه، إلا أن الفضل ينسب له في أنه أوجد للشعب الفلسطيني اللاجئ، والمثخن بالجراح.. هوية ثائر.
رحل أبو عمار، وهو يعتزّ بأنه قال "لا" كبيرة للرئيس الأميركي، بيل كلينتون. وحين حاول الأخير تهديده بادره أبو عمار قائلا: "إذا أردتّم التهديد، فأنا أدعوكم للسير في جنازتي". كان ينادينا: "أنتم شعب الجبّارين"، ثم يتلو كعادته في نهاية خطابه: "وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة".
لماذا نجد أنفسنا اليوم في أمسّ الحاجة إلى الطابع العرفاتي في القيادة الحالية التي أصبحت في مواجهة الشعب، بعد أن كان في ظهرها، وأوصلت الفلسطيني إلى مرحلةٍ بات لا يأمن فيها على نفسه، لأن يقول ما هو جائز شرعا، مرفوض حزبيا.
انسحبت من قاموسنا مفردات الثورة التي كان يردّدها جيل الانتفاضة، وحلّت مكانها مفردات البنوك المصرفية. وانغمس "جيل أوسلو" في دوّامة من المهاترات، غرقت في خضمّها المبادئ الإنسانية.
ومن جيل الانقسام، لا نسمع إلا الكلمات النابية التي بدأ في مرحلة التقليد اللغوي يرددها مما يسمعه في بيانات الأحزاب السياسية.
كان الإعلام الغربي يطلق اسم "انتفاضة الأطفال" على أحداث عام 1987؛ لأن الشباب كان يتحلى بروح ثائرة ألهمت الكبار ودفعتهم للفعل والمشاركة. لذلك، مغفّل من يعتقد أن ثلاثة حروب شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة، وحصار خانق، كان يستهدف إعادة قطعة أرض انسحبوا منها، إنما هي حروب تستهدف وعي هذه الأجيال.
وليس أسهل على عدوّنا من تغيير أفكارنا ومدركاتنا للصراع، صنع لنا الانقسام في غزة. وفي الضفة الغربية والقدس، يمارس حرباً ناعمة. يُغيّر أسماء شوارع وقرى عربية إلى أسماء عبرية تلمودية. "هار حماه" هو الاسم الجديد لقرية دير ياسين التي نفّذ فيها مناحيم بيغن المذبحة، ثم اقتسم مع أنور السادات جائزة نوبل للسلام.
هذا لنعرف أن إسرائيل حرقت وعي العالم أيضاً. وضعت بين أيدي أجيالنا في القدس كتبا محشوّة بالأفكار التي تعزّز الرواية الإسرائيلية، ضمن محاولات أسرلة المنهاج الفلسطيني، وتهويد التعليم.
حكمت إسرائيل بإعدام قصيدة الثائر والشاعر الفلسطيني، عبد الرحيم محمود: "سأحمل روحي على راحتي .. "، وأصبحت القدس عاصمة إسرائيل. ثم حين سئل وزير التعليم الفلسطيني صبري صيدم: أي نظام تعليمي نريد؟ أجاب: نريد تعليماً يصنع التحرير.
نحو مليون وأربعمائة ألف شاب في عمر 15-29 عاما، يعيشون في يومنا هذا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويشكلون 30 % من السكان الفلسطينيين، هم الآن بالغون يحملون أمنية عجوز يموت، ويرفضون واقعهم كما يرفضون الشيخوخة.
وإلى جوارنا، يشبّ الإسرائيلي جنديا في سن الثامنة عشرة، مرفّها، سعيدا بقدره، ويتخرّج ورأسه مزدحمة بكتيبة من الشياطين ضدنا.
لم يعد الاختلاف مُجدياً على مستقبل الدولة أو جغرافيتها، لأن الفلسطيني بات مثقلا بتكاليف الخلاف عليها. كما من المحظور جدا تجاهل أن جيل النكبة يودعنا، فيما الأجيال من بعده بدأت بالفعل تنسى.
علينا أن نضع الخطط الاستراتيجية في كيفية استثمار الأجيال، بقدر اهتمامنا وانشغالنا باستثمار الأموال والعُمران؛ لأن "الشباب إذا لم يشتركوا في صنع الحياة، فهنالك آخرون سوف يجبرونهم علي الحياة التي يصنعونها". يتوجّب أن تدفعنا هذه الأسباب إلى الوحدة وطنيا، وإعلاء معاني التسامح، أن نملك جرأة الزعيم مانديلا: الشعب الشجاع لا يخشى المسامحة.
لا بد أن نتوقف عن طرح الأعذار، وأن نتحلّى بالجرأة للاعتراف بأن الأجيال كلّها تتنفّس بقلة صبر، ناقمة على غصن الزيتون، ومكتملة الألم من البندقية.
مقالات أخرى
01 يوليو 2019
18 يناير 2019
05 نوفمبر 2018