28 ديسمبر 2021
شرعية السلطة أم شرعية الثوابت الملزمة؟
لم يعد في الوضع الوطني الفلسطيني ما يثير كثيرا من الغرابة، ولا استبعاد استحالات أو محرّمات عديدة، درجنا على التعايش معها منذ النكبات الأولى والثانية والثالثة، ومسلسل الهزائم الذي بات يتحفنا به الوضع العربي والإقليمي، وما يتفرع عنه الوضع الفلسطيني الآن، وهو ينتقل بخفّةٍ من حال إلى حال، فالانتقالات الدراماتيكية المتسارعة، السهلة والسيّالة، منذ صعود الترامبية بشعبويتها المنفلتة، وتأثيرها المباشر على مجريات الوضع الدولي ومعطياته، وبضمنه الوضع الفلسطيني الأكثر تأثرا وتفاعلا مع ما يجري على الصعيدين، الإقليمي والدولي، فهو منذ البداية عمد إلى وضع الماء في سلال ترامب في رهان "تاريخي" واهم وحالم، يحمل كثيرا من الأضرار والإيذاء للذات الوطنية، حين بدأت أزمة الكهرباء في غزة تستفحل. لتترافق، فيما بعد، مع مجازر الرواتب بتقليص رواتب الموظفين الحكوميين وفرض تقاعد مبكر على كثيرين منهم، وصولا إلى تغيير مسمياتٍ تعود إلى الثوابت الوطنية الفلسطينية، حتى لم يعد هنالك من ثوابت سوى النزوع السلطوي للاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن، وما تجريه على هوامشها من إجراءاتٍ وتغييراتٍ وانتقالاتٍ وتبدلاتٍ، جميعها لا يدخل في نطاق الالتزام ببرنامج التحرّر الوطني، بقدر ما يوغل الوضع الوطني الفلسطيني برمته في نطاقات التقاسم والانقسام والتجزيء والتجزئة، وصولا إلى تكريس الانفصال بين كياني الأمر الواقع، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
يبقى الأخطر، اليوم، ما يقال عن نية السلطة، الإعلان عن قطاع غزة "إقليما متمردا"، طلقة أخيرة في "سلاح يوم القيامة"، مع ما يعنيه هذا التوجه من قطيعةٍ وانفصال، واتخاذ إجراءات قاسية بحق مواطني القطاع الأكثر معاناةً بفعل حال الانقسام، واعتبارهم "متاريس حرب" السلطات المتناحرة على الأرض الفلسطينية. هذا في وقتٍ يجري فيه تهميش كامل مواقع الوجود الفلسطيني، وتجاهلها وتجاهل معاناتها ومشكلاتها وقضاياها حتى المتصلة بكيان الأمر الواقع "المركزي"، أو ما يفترض أنه المركز القيادي للحركة الوطنية الفلسطينية الذي بات فئويا وأكثر استفرادا واستبدادا واستفزازا للكل الفلسطيني، و"جرأته" في اتخاذ قراراته الأحادية.
ما بات يجري من انفكاكٍ "قيادي" أضحى يوغل مبتعدا عن مبادئ الوطنية الفلسطينية وقيمها وأخلاقياتها، وهذا تحديدا ما منع العودة إلى وحدة النظام السياسي وإنهاء الانقسام، وما لن
يساهم في تقريب نتائج حل تفاوضي أو لاتفاوضي، تتوهم "القيادة الفلسطينية" أنه سيأتي لها بدولةٍ على حدود 1967، في وقتٍ بدا أن الحكومة الإسرائيلية لم تعد تتعثر في سيرها نحو المفاوضات، بل إنها تحثّ الخطى نحو التلاقي على قاعدة "الحقائق البديلة" الترامبية، في توافقها الكامل مع طلبات (ومتطلبات) الحلف الإسرائيلي الأميركي – الغربي، الهادف إلى الحفاظ على مصالح الأمن الاستراتيجي لإسرائيل أولا، وللغرب عموما ثانيا، ولحلفاء الغرب في المنطقة ثالثا؟
ولأن الوضع الوطني الفلسطيني لم يعد محصنا من الانزلاق نحو دروبٍ لا تقل تصفويةً عما تحاوله جبهة قوى الأعداء، ها هي الإفرازات الداخلية تتناغم وتنسجم مع خريطة طريق حكومة الاحتلال، ومن بعدها خريطة طريق الإدارة الترامبية في تمهيدها لتطبيق مواصفات تأهيل "الشريك الفلسطيني" وشروطه، من قبيل تغيير السياسات، وصولا إلى تغيير المسميات، في ما تجلى في تهويد "حائط البراق"، ووقف مخصصات رواتب الأسرى والشهداء، والذي كان مطلبا إسرائيليا، ثم عاد الأميركيون ليؤكدوا عليه عبر تصريحات ريكس تيلرسون وزير خارجية ترامب يومي الثالث والرابع عشر من يونيو/ حزيران الجاري في شهادته أمام مجلسي النواب والشيوخ. حيث نقل عنه أن الرئيس عباس التزم وقف دفع رواتب عائلات الشهداء والأسرى، وأنه يبحث عن مخرجٍ ما لتغيير التسميات القديمة، من قبيل تحويلهم إلى "أيتام وأرامل ومحتاجين أو معوزين"، في هروبٍ وتهرّبٍ واضحين من أعباء مرحلة التحرّر الوطني، في ممالأةٍ واضحةٍ لما يريده العدو.
وما يريده العدو، وفق وزير التعليم الإسرائيلي المتطرف، نفتالي بينيت، سلام "القوة" التي تفرض معادلة "أنا أملي وأنت توقع". وهذا ما لن ينتج سوى اتفاق استسلام وليس اتفاق سلام، فالاتفاق "الذي يقوم على الإملاء، ولا يراعي احتياجات الطرف الآخر لا أمل فيه".
ولهذا لن يكون بالإمكان أن تشذّ السياسات المعتمدة اليوم في المنطقة والعالم، عن سياسات المقايضة شكلاً آخر من أشكال الصفقات التي تيرع فيها الإدارة الترامبية، وتحاول عبرها الوصول إلى سلامٍ لم تعرف طبيعته بعد؛ أهو السلام الاقليمي أولا، أم "سلام الشجعان" على الطريقة الترامبية، في وقتٍ يوغل الإسرائيليون في صفاقتهم المعهودة، وهم يحاولون ألا يقايضوا مع الفلسطينيين تسوية سلامٍ جوهرية، فيستعيدون (الفلسطينيون) من خلالها دولةً يفتقدونها بفعل استمرار الاستيطان، واعتبار كل الأرض الفلسطينية من حقوقهم (الإسرائيليين) التي "تبيح" لهم اعتبار ما للفلسطينيين كذلك، وفق ما اعترفت لهم بها قرارات الشرعية الدولية، من حقوقهم أيضا. فأي تسوية يمكنها أن تنسجم وسياسات المقايضة الترامبية؟ وما الذي يملكه الفلسطينيون اليوم في وضعهم الحالي الهش، كي يقايضوا سلامهم المزعوم مع عدوهم التاريخي بأرضهم التاريخية كاملة، من أجل حكم ذاتي منقوص السيادة في الضفة الغربية، يواصل فكّ ارتباطه بقطاع غزة، ويضيف إلى مصلحة الاحتلال مزيداً من أرصدة الأرباح الصافية؟
أما لجهة ما صاره المشروع الوطني الفلسطيني، فهو ما زال يشهد عديداً من أشكال تدميره وتخريبه، ليس من العدو فقط، بل وبفعل فاعلين من داخله، يسعون حثيثا إلى إبقاء الانقسام وكذا الانفصال، سمة الوضع الوطني الفلسطيني العاجز عن استرداد وحدته الكفاحية جغرافيا
وبرنامجيا وسياسيا وتنظيميا، وبما يعيد للنظام السياسي الفلسطيني وحدته مظلةً تجمع الكل الفلسطيني في الإطار الكياني الذي تمثله منظمة التحرير، كما مثلته أول مرة منذ تأسيسها، وحتى عشية الانقلاب الانقسامي الذي أطاح أشكالاً عديدة من "وحدة فصائلية" لم تلتئم جروحها بعد، على الرغم من مرور عشر سنوات من الضياع والمهاترات والمناكفات المتواصلىة.
ولأن واقع الحال كما هو عليه الآن، وجدنا من بين جنرالات الاحتلال من يرى أنه، من الناحية الاستراتيجية، فإن الانقسام مصلحة إسرائيلية، وفق الجنرال غيرشون هكوهين في مقال في صحيفة إسرائيل اليوم (16/6/2017) رأى أنه مع استمرار الانقسام الفلسطيني يمكن لإسرائيل أن تخيّر الفلسطينيين بين خيارين: تحقيق سيطرتهم على مناطق الضفة الغربية التي استلموها منذ 1995، أو الاندماج في إسرائيل كدولة واحدة. ولذلك، سيكون من المصلحة الإسرائيلية العمل، بكل قوتها، لمنع قيام شبكة العلاقات بين الطرفين اللذين يحكمان غزة والضفة.
وسط هذا كله، أين يكمن الرهان الصحيح الذي ينبغي للفلسطينيين الانحياز إليه، والعمل وفقه، وبما ينسجم والمصالح الوطنية العليا، قبل الدخول في الرهان على أوهام التفاوض ومتاهاته، والرهان على نتائج ليست مضمونة بالمطلق، في وقت بدا ويبدو أن الرهان على الذات أولا لم يعد له الأولوية في مقاربات القوى على اختلافها للأسف، وتلك مصيبة المصائب، أما المصيبة الكبرى فهي تلك الاستجابات المقسّطة التي باتت تتم بالمفرق لشروط العدو، ومن يشد من أزره، تمهيدا لمفاوضاتٍ غير متكافئة، لن توصلنا سوى إلى التهلكة، بعيدا من المشروع الوطني، وبعيدا عن ثوابته غير القابلة للتصرّف بها من أيّ كان، فتلك الثوابت معيار الشرعية وحدها لا غير.
يبقى الأخطر، اليوم، ما يقال عن نية السلطة، الإعلان عن قطاع غزة "إقليما متمردا"، طلقة أخيرة في "سلاح يوم القيامة"، مع ما يعنيه هذا التوجه من قطيعةٍ وانفصال، واتخاذ إجراءات قاسية بحق مواطني القطاع الأكثر معاناةً بفعل حال الانقسام، واعتبارهم "متاريس حرب" السلطات المتناحرة على الأرض الفلسطينية. هذا في وقتٍ يجري فيه تهميش كامل مواقع الوجود الفلسطيني، وتجاهلها وتجاهل معاناتها ومشكلاتها وقضاياها حتى المتصلة بكيان الأمر الواقع "المركزي"، أو ما يفترض أنه المركز القيادي للحركة الوطنية الفلسطينية الذي بات فئويا وأكثر استفرادا واستبدادا واستفزازا للكل الفلسطيني، و"جرأته" في اتخاذ قراراته الأحادية.
ما بات يجري من انفكاكٍ "قيادي" أضحى يوغل مبتعدا عن مبادئ الوطنية الفلسطينية وقيمها وأخلاقياتها، وهذا تحديدا ما منع العودة إلى وحدة النظام السياسي وإنهاء الانقسام، وما لن
ولأن الوضع الوطني الفلسطيني لم يعد محصنا من الانزلاق نحو دروبٍ لا تقل تصفويةً عما تحاوله جبهة قوى الأعداء، ها هي الإفرازات الداخلية تتناغم وتنسجم مع خريطة طريق حكومة الاحتلال، ومن بعدها خريطة طريق الإدارة الترامبية في تمهيدها لتطبيق مواصفات تأهيل "الشريك الفلسطيني" وشروطه، من قبيل تغيير السياسات، وصولا إلى تغيير المسميات، في ما تجلى في تهويد "حائط البراق"، ووقف مخصصات رواتب الأسرى والشهداء، والذي كان مطلبا إسرائيليا، ثم عاد الأميركيون ليؤكدوا عليه عبر تصريحات ريكس تيلرسون وزير خارجية ترامب يومي الثالث والرابع عشر من يونيو/ حزيران الجاري في شهادته أمام مجلسي النواب والشيوخ. حيث نقل عنه أن الرئيس عباس التزم وقف دفع رواتب عائلات الشهداء والأسرى، وأنه يبحث عن مخرجٍ ما لتغيير التسميات القديمة، من قبيل تحويلهم إلى "أيتام وأرامل ومحتاجين أو معوزين"، في هروبٍ وتهرّبٍ واضحين من أعباء مرحلة التحرّر الوطني، في ممالأةٍ واضحةٍ لما يريده العدو.
وما يريده العدو، وفق وزير التعليم الإسرائيلي المتطرف، نفتالي بينيت، سلام "القوة" التي تفرض معادلة "أنا أملي وأنت توقع". وهذا ما لن ينتج سوى اتفاق استسلام وليس اتفاق سلام، فالاتفاق "الذي يقوم على الإملاء، ولا يراعي احتياجات الطرف الآخر لا أمل فيه".
ولهذا لن يكون بالإمكان أن تشذّ السياسات المعتمدة اليوم في المنطقة والعالم، عن سياسات المقايضة شكلاً آخر من أشكال الصفقات التي تيرع فيها الإدارة الترامبية، وتحاول عبرها الوصول إلى سلامٍ لم تعرف طبيعته بعد؛ أهو السلام الاقليمي أولا، أم "سلام الشجعان" على الطريقة الترامبية، في وقتٍ يوغل الإسرائيليون في صفاقتهم المعهودة، وهم يحاولون ألا يقايضوا مع الفلسطينيين تسوية سلامٍ جوهرية، فيستعيدون (الفلسطينيون) من خلالها دولةً يفتقدونها بفعل استمرار الاستيطان، واعتبار كل الأرض الفلسطينية من حقوقهم (الإسرائيليين) التي "تبيح" لهم اعتبار ما للفلسطينيين كذلك، وفق ما اعترفت لهم بها قرارات الشرعية الدولية، من حقوقهم أيضا. فأي تسوية يمكنها أن تنسجم وسياسات المقايضة الترامبية؟ وما الذي يملكه الفلسطينيون اليوم في وضعهم الحالي الهش، كي يقايضوا سلامهم المزعوم مع عدوهم التاريخي بأرضهم التاريخية كاملة، من أجل حكم ذاتي منقوص السيادة في الضفة الغربية، يواصل فكّ ارتباطه بقطاع غزة، ويضيف إلى مصلحة الاحتلال مزيداً من أرصدة الأرباح الصافية؟
أما لجهة ما صاره المشروع الوطني الفلسطيني، فهو ما زال يشهد عديداً من أشكال تدميره وتخريبه، ليس من العدو فقط، بل وبفعل فاعلين من داخله، يسعون حثيثا إلى إبقاء الانقسام وكذا الانفصال، سمة الوضع الوطني الفلسطيني العاجز عن استرداد وحدته الكفاحية جغرافيا
ولأن واقع الحال كما هو عليه الآن، وجدنا من بين جنرالات الاحتلال من يرى أنه، من الناحية الاستراتيجية، فإن الانقسام مصلحة إسرائيلية، وفق الجنرال غيرشون هكوهين في مقال في صحيفة إسرائيل اليوم (16/6/2017) رأى أنه مع استمرار الانقسام الفلسطيني يمكن لإسرائيل أن تخيّر الفلسطينيين بين خيارين: تحقيق سيطرتهم على مناطق الضفة الغربية التي استلموها منذ 1995، أو الاندماج في إسرائيل كدولة واحدة. ولذلك، سيكون من المصلحة الإسرائيلية العمل، بكل قوتها، لمنع قيام شبكة العلاقات بين الطرفين اللذين يحكمان غزة والضفة.
وسط هذا كله، أين يكمن الرهان الصحيح الذي ينبغي للفلسطينيين الانحياز إليه، والعمل وفقه، وبما ينسجم والمصالح الوطنية العليا، قبل الدخول في الرهان على أوهام التفاوض ومتاهاته، والرهان على نتائج ليست مضمونة بالمطلق، في وقت بدا ويبدو أن الرهان على الذات أولا لم يعد له الأولوية في مقاربات القوى على اختلافها للأسف، وتلك مصيبة المصائب، أما المصيبة الكبرى فهي تلك الاستجابات المقسّطة التي باتت تتم بالمفرق لشروط العدو، ومن يشد من أزره، تمهيدا لمفاوضاتٍ غير متكافئة، لن توصلنا سوى إلى التهلكة، بعيدا من المشروع الوطني، وبعيدا عن ثوابته غير القابلة للتصرّف بها من أيّ كان، فتلك الثوابت معيار الشرعية وحدها لا غير.