شرطة الأخلاق الإلكترونية: عن أغنية شيما... والمخبرين المتطوعين

13 ديسمبر 2017
"أخلاق" مروان يونس في مواجهة "فجور" شيما (فيسبوك)
+ الخط -
قبل شهر تقريباً نشر المصري مروان يونس الذي يمتلك تأثيراً واسعاً على مواقع التواصل، وهو شهير بفيديوهاته الساخرة وخفيفة الدم (بغض النظر عن التعريف النسبي لخفّة الدم)، فيديو له تحدّث فيه عن كليب "عندي ظروف" لشابة مصرية تُدعى شيما. الفيديو الذي اعتبر "خادشاً للحياء العام"، أزعج مروان يونس فقرّر بفيديو مدّته دقيقتان ونصف نشره على حسابه على فيسبوك، أن يحرّض على المغنية، ويشجّع كل مشاهديه (وهم كثر) على التبليغ عن الفيديو. يوم أمس صدر حكم بسجن الشابة سنتين، بسبب هذا الفيديو كليب. 




يجلس مروان يونس جنباً إلى جنب مع عناصر أخرى من شرطة الأخلاق الإلكترونية التي تنتشر في العالم العربي والإسلامي بشكل كبير. شرطة تتوزّع المهام في ما بينها بشكل خفي وبتواطؤ وتفاهم لا يحتاجان إلى الكلام. يبدأ أحدهم حملة تشهير أو تنمّر أخلاقي، ينضمّ إليه الآخرون من دون دعوة حتى. هي دائرة أخلاق حميدة مغلقة، وتدور بداخلها حملات نشر صور، وتحريض، وشتم وسخرية. لكنّ المخيف في قصة يونس تحديداً أنه يقدّم نفسه على أنه شاب منفتح، قادم من الطبقة المتوسطة المصرية، ووجهٌ من وجوه الإنترنت المصري المؤثرة. وهو تحديداً ما جعله ينضمّ إلى برنامج "أبلة فاهيتا" الشهير، والذي يقوم بشكل أساسي على الإيحاءات الجنسية المتواصلة لأكثر من ساعة ونصف.

في العام 2012، ومع وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي (وعلى الطرقات) عبارات من نوع "أترضاه لأختك؟"، وغيرها من التعابير التي كانت تحاول "هداية" الناشطين. وإلى جانب محاولات إعادة "الضالين أخلاقياً" إلى الطريق المستقيم، كانت تنتشر محاكمات أخلاقية، لناشطات إناث بشكل خاص. من دون الكثير من التفكير، رُبط بين هذه الممارسات وانتفاضة التيار الديني في مصر. لكن مرّت الأيام، ذهب الإسلاميون من الحكم، ومن التأثير المباشر على مواقع التواصل، وبقيت شرطة الأخلاق هنا.



قبل أشهر قليلة، بدأت تتسرّب صور وأحاديث من مجموعات عربية مغلقة على فيسبوك، لفتيات وسيدات يتشاركن مشاكلهن العاطفية والشخصية والجنسية. يومها تم نشر صور الفتيات المشاركات ووُصمن بأنهن "عاهرات". وهو ربما أكثر التعابير انتشاراً في العالم العربي. الاتهام الأسهل، على ما ينطوي من ذكورية واحتقار للنساء.


الشهر الماضي، شارك لاعب المنتخب المصري ونادي ليفربول الإنكليزي، محمد صلاح في حملة على مواقع التواصل لمساندة حقوق النساء. وكتب: "لأني راجل فاهم إن الراجل والست ليهم نفس الحقوق والواجبات، قررت ادعم حملة "لأني رجل" التابعة للمجلس القومي للمرأة وهيئة الأمم المتحدة للمرأة". قسم كبير من الردود العربية عليه كانت من نوعية "اترك هذه المواضيع وركز في كرة القدم لنبقى نحبك"... فيما لم يتردّد آخرون في اتهامه بأنه ضحية "القيم الغربية بسبب إقامته في أوروبا". هذه الردود جاءت من مصر والسعودية وسورية والبحرين ولبنان...



مثالٌ آخر لكن هذه المرة من السعودية. مع صدور قرار يسمح للنساء السعوديات بالقيادة، قرّرت مجموعة من السعوديين نشر صور النساء اللواتي سيقدن سيارات، والتشهير بهنّ على مواقع التواصل الاجتماعي. وهذه المرة تراوح الاتهام الأخلاقي بين "مخالفة كلام الله" وصولاً إلى عرض أجسادهن لعيون الغرباء.

اللائحة لا تنتهي حرفياً. وبالنظر إلى كمية الاتهامات بـ"الفجور" و"عدم احترام العادات والتقاليد" التي تنتشر يومياً على مواقع التواصل الاجتماعي، يبدو رصد نوعية الضحايا سهلاً إلى حدّ كبير: النساء بالدرجة الأولى. تختار شرطة الأخلاق ضحاياها بشكل عشوائي. فهي تارة لنساء سياسيات، وتارة لناشطات. واللافت هنا أن نساء أخريات يتبرّعن غالباً بمهمة التشهير الأخلاقي بنساء أخريات.
نذكر على سبيل المثال ما كتبته مذيعة أخبار لبنانية على حسابها الخاص على "تويتر" مع انفجار فضيحة التحرش الجنسي حول العالم، إن أغلب الفتيات اللواتي يتحدّثن عن التحرش بهن "كنّ راضيات أو ربما بحثن عن قصد عن هذا التحرش". وفتحت باب التعليقات على حسابها لشتم الفتيات المتحدثات عن تجاربهن مع التحرش الجنسي. وكان القاسم المشترك هو اتهام هؤلاء الفتيات بـ"الفجور" (مجدداً) لأنهنّ أصلاً يتحدّثن عن هذا الموضوع بشكل علني.

جنود كثر، بعضهم محافظون، وآخرون يقدّمون أنفسهم بمظهر المتحرّر، بعضهم متدينون، وآخرون علمانيون... كلهم يجمعهم لواء "الارتقاء بأخلاق المجتمع". ورغم الاختلافات السياسية بين مختلف الأطراف، فإنّ جنود هذا الجيش يجتمعون فجأة عندما يتعلّق الموضوع بالتشهير الجنسي بضحية ما.

يتماهى هذا الأداء، مع سياسات الأنظمة العربية والعالمية. سياسات ترسّخت بشكل مرعب مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، هو الذي وصف السيناتورة كيرستن جيليبراند بـ"العاهرة" بشكل إيحائي في تغريدة أخيرة له. كذلك تفعل الأنظمة العربية، وإن كانت أساليبها أقل مباشرة وأكثر تماشياً مع طابعها الأمني/ المخابراتي.

يقال إن الرجل القوي في عهد الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك، صفوت الشريف كان يهدّد أغلب الممثلات منذ الستينيات في مصر بالتشهير الأخلاقي بهنّ، في حال لم يرضخن لمطالب طابعها قد يختلف، بين السياسي والمخابراتي والجنسي. وتعرف صالونات السياسيين ومكاتبهم المغلقة، تركيب ملفات أخلاقية لممثلات وممثلين كثر. لكنّ الاتهامات ليست دائماً خفية. بل تحصل أحياناً مباشرة على الهواء.

النائب الأردني السابق محمود الخرابشة فقد أعصابه وانسحب من حلقة برنامج #شباب توك على قناة دويتشيه فيليه الألمانية، بعدما عرض البرنامج شهادة فتاة أردنية تحدّثت عن تعرضها المتكرر للتحرش الجنسي في الأردن. جنّ جنون النائب السابق، وساق كل الاتهامات الأخلاقية بحق الفتاة وصولاً إلى سؤالها إن كانت جنسيتها "أردنية"، على اعتبار أن الأردنيات "لا يمكن لهنّ التكلم بهذا الموضوع بشكل علني". بسرعة قياسية تأهب ناشطون على مواقع التواصل للدفاع عن "شرف فتيات الأردن"، وساقوا كل الاتهامات السوقية بحق الفتاة ضحية التحرش.




ماذا يريد هؤلاء؟ يبدو الجواب أصعب بكثير من أية أفكار بديهية. إذ كشفت إحصائيات موقع "فيسبوك" أنّ المواضيع (الكلمات المفتاحية) الأكثر بحثاً في العالم العربي، جنسية بشكل أساسي. فيتم البحث عن أسماء فتيات مغمورات، مشاهدة صورهنّ وفيديوهاتهن، وغالباً التشهير بعدها بهنّ، والمطالبة بإيقافهنّ. وهو ما يحصل غالباً: من "المغنية" المغمورة رضا الفولي صاحبة أغنية "سيب إيدي" في مصر، إلى محاكمة شابتين ارتديتا تنانير في المغرب بعد التحريض عليهما في الشارع وعلى مواقع التواصل، وصولاً إلى حملة أخلاقية انفجرت في وجه عارضة الأزياء اللبنانية ميريام كلينك أوصلتها إلى التحقيق، ثمّ إقفال نادٍ ليلي في الساحل الشمالي في مصر الصيف الماضي، بعدما وشى به مغردون على مواقع التواصل الاجتماعي "لأنه يخالف العادات والتقاليد المصرية"، وبين كل هذه الأمثلة، ترد حوادث أخرى عن تشويه صورة معارضات سوريات، ووسمهن بـ"العهر" من قبل كتائب إلكترونية، وإنشاء وحدة للحفاظ على الأخلاق في الفضاء الإلكتروني السعودي.

تمنح مواقع التواصل سلطة لهؤلاء. تعطيهم قوة، يكرّسها تجاوب السلطة مع عمليات الوشاية هذه. تجاوب يصل حد التشجيع، كما حصل في رمضان الماضي، عندما أصدر المجلس الأعلى للإعلام المصري تقريراً يتضمّن ملاحظات على نصوص المسلسلات. إلى جانب فرض غرامات على القنوات والإذاعات التي تخالف توصيات التقرير. لكن المرعب كان منح كل مواطن يبلّغ عن لفظ خادش 10 في المئة من قيمة الغرامة.

نعود إلى البداية. يوم أمس، حُكم على الشابة المصرية شيما بالسجن. تزامن الحكم مع بعض التغريدات التي شكرت مروان يونس على الحملة التي أدت إلى سجن الشابة وإلى انتصار الأخلاق على الفجور. كيف تتحوّل المجتمعات العربية إلى مجتمعات أمنية مخابراتية؟  لنا في قصة شيما أطرافُ جوابٍ.

دلالات
المساهمون