في الوقت الذي لا تكف فيه السلطات الروسية عن محاولة التبرؤ من شبهة وقوفها وراء تسميم المعارض السياسي الأبرز، مؤسس "صندوق مكافحة الفساد"، أليكسي نافالني، والتأكيد أن الواقعة لا تصب في مصلحتها، تتراكم المؤشرات على أن الحادثة لن تمر من دون تداعيات على موسكو، بينما قدّم أحد أبرز المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين خدمة مجانية لكل من يتهم موسكو بمحاولة قتل نافالني.
وتوعد بيفغيني بريغوجين، أحد المقربين المثيرين للجدل من بوتين، أمس الأربعاء، بـ "تدمير" نافالني ما لم "يسلم الروح". ويشتبه بأن رجل الأعمال الملقب بـ"طباخ بوتين"، لأن شركة المطاعم التي يديرها "كونكورد" عملت لحساب الكرملين، على صلة بـ"مصنع لمتصيدي الإنترنت" تتهمه واشنطن بالتأثير على العملية الانتخابية وبمجموعة المرتزقة "فاغنر". ويعتزم بريغوجين مطالبة نافالني وحليفته المحامية ليوبوف سوبول بتعويضات تبلغ 88 مليون روبل (نحو مليون يورو) بعد نشر تحقيق، عن شركة تدير مقصف مدرسة تعاقدت مع "كونكورد". وقال بريغوجين، في بيان، "أنوي تدمير مجموعة الأشخاص هذه التي لا روادع أخلاقية لديها"، مشيراً إلى أن شركة مقصف مدرسة تعاقدت مع "كونكورد"، منيت بأضرار بعد نشر نافالني لفيديو يجرم نشاطه. ويبدو أنه دفع تعويضات لهذه الشركة ويريد استرجاع الأموال من المعارضين. وقال "إذا أسلم نافالني الروح، فليس لدي أي نية لملاحقته في هذا العالم، وإذا بقي على قيد الحياة، فسيتعين عليه الرد وفقاً للقانون الروسي".
يتساءل المحللون السياسيون الروس والصحافة عمن قد يكون دبر الجريمة
ووجهت كل من برلين وباريس وبروكسل نداء إلى موسكو لإجراء تحقيق في القضية، ومعاقبة المسؤولين عنها. كما تطرق نائب وزير الخارجية الأميركي ستيفن بيغان، هو الآخر، إلى قضية نافالني أثناء زيارته إلى العاصمة الروسية أخيراً ومحادثاته مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، متوعداً باتخاذ إجراءات "تفوق رد فعل المجتمع الأميركي على التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2016" في حال تأكدت رواية التسميم.
وجاء تشديد الموقف الغربي بعد إصدار مستشفى "شاريتيه" الألماني، الذي يتلقى نافالني العلاج فيه بياناً أخيراً يرجح تسميم المعارض الروسي. ومن المنتظر أن يصدر التقرير النهائي خلال الأيام القليلة المقبلة.
في هذه الأثناء، يتساءل المحللون السياسيون الروس والصحافة عمن قد يكون دبر الجريمة، ومدى تأثيرها على العلاقات بين روسيا والغرب الذي قد يرى فيها محاولة جديدة للتخلص من خصوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي تقرير بعنوان "نافالني هو التشخيص" رأت صحيفة "كوميرسانت" الروسية، في عددها الصادر أمس الأربعاء، أن قضية نافالني تنذر بالتدهور النهائي للعلاقات بين روسيا والغرب، وحتى فرض عقوبات جديدة على موسكو في حال تأكدت رواية التسميم.
من جهته، قال مدير عام المجلس الروسي للشؤون الدولية أندريه كورتونوف، لـ"كوميرسانت": "حدثت هذه القصة، التي تصب الزيت على نار الحرب الإعلامية، بالتزامن مع إظهار الجانب الروسي ضبط النفس، آملا خفض حدة التوتر في العلاقات مع الشركاء الغربيين". وتوقع كورتونوف أنه بعد الهدم النهائي لمنظومة الثقة في العلاقات مع موسكو، سيربط الغرب قصة نافالني بالأحداث في بيلاروسيا. وفي حال تأكدت رواية تسميم نافالني، فإنه سينضم إلى قائمة معارضي الكرملين الذين قضوا، أو تعرضوا لمحاولات اغتيال في ظروف غامضة، من دون تحديد هوية المحرض، مع معاقبة المنفذين فقط في أحسن الأحوال. ومن بين مثل هذه الحوادث ذائعة الصيت، اغتيال الرئيس المشارك لحزب "بارناس" الليبرالي المعارض، بوريس نيمتسوف، على بعد أمتار من الكرملين نهاية فبراير/شباط 2015، ومحاولة تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته يوليا في مدينة سالزبري البريطانية في 2018، واغتيال الصحافية المعارضة، آنا بوليتكوفسكايا في 2006، وغيرها.
قللت ستانوفايا من واقعية ضلوع بوتين بشكل مباشر في واقعة تسميم نافالني
وبصرف النظر عمن قد يقف وراء تسميم نافالني، اعتبرت الباحثة في مركز "كارنيغي" في موسكو تاتيانا ستانوفايا أن حقيقة الاعتداء عليه تشكل في حد ذاتها "مظهراً هاماً يدل على تآكل عنصر القوة في روسيا البوتينية التي يضطر كثيرون فيها للبحث عن سبل خطرة للنجاة دون النظر إلى الوسائل". وفي مقال بعنوان "تآكل القوة. تسميم نافالني والنظام الروسي"، نشر بموقع مركز "كارنيغي" أمس الأول الثلاثاء، لفتت ستانوفايا إلى أن "نافالني لا يزال أبرز وجوه المعارضة غير النظامية التي تتميز عن مثيلتها النظامية بأنها تتبنى مواقف حازمة مناهضة لـ"الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين، وسط حرمانها من قبل النظام من ممارسة النشاط السياسي المشروع".
إلا أن هذا الوضع لم يمنع نافالني من تحقيق بعض النجاحات، مثل إطلاق حملة "التصويت الذكي" في انتخابات مجلس دوما (نواب) موسكو العام الماضي، أي حشد الدعم للمرشحين الذين من المتوقع أن يأتوا في المرتبة الثانية، ما أدى إلى إلحاق عدة هزائم مفاجئة بمرشحي السلطة في بعض الدوائر. ومع ذلك، قللت ستانوفايا من واقعية ضلوع بوتين بشكل مباشر في واقعة تسميم نافالني، مضيفة "يشكل نشاط نافالني بالنسبة إلى بوتين منطقة هامشية من الكون الجيوسياسي اللامتناهي. وإذا تحدثنا عن ضلوعه في الواقعة، فيندرج ذلك في سياق تكوين الصفة غير المحصنة للمعارضة غير النظامية". واعتبرت أن واقعة تسميم نافالني، شأنها في ذلك شأن اغتيال نيمتسوف، "تبدو محاولة لتلبية طلب النظام لخدمات الحراسة"، محذرة من أن تكوين مثل هذه السوق يشكل توجهاً خطراً للسلطة الروسية، كونها تعني أن الكيانات المقربة من السلطة تعتبر أن النظام لم يعد قادراً على مواجهة المخاطر والتهديدات بنفسه.
يذكر أن نافالني، البالغ من العمر 44 سنة، أصيب بوعكة صحية أثناء رحلة جوية من مدينة تومسك الواقعة في سيبيريا إلى موسكو قبل نحو أسبوع، ما أدى إلى هبوط الطائرة اضطرارياً في مدينة أومسك وإدخال المعارض إلى مستشفى محلي بحالة حرجة ووضعه على جهاز التنفس الصناعي وسط دخوله حالة الغيبوبة. وبعد مرور بضعة أيام، نقل نافالني إلى ألمانيا لتلقي العلاج، حيث رجح الأطباء أنه تعرض للتسميم.