شبح الماضي في المغرب

20 سبتمبر 2017
+ الخط -
تأسست هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب قبل ثلاثة عشر عاما على ثلاثة أسس: قراءة كتاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في عهد الملك الراحل، الحسن الثاني، علانية وبدون عقد. تعويض ضحايا ما تعرف في المغرب "سنوات الجمر والرصاص" ماديا ومعنويا، واعتذار الدولة عما فعلت من جرائم في حق البشر. الالتزام بعدم تكرار ما جرى، ووضع قوانين ومؤسسات ومواثيق لرعاية حقوق الإنسان، وزرع ثقافتها في عقل الدولة الأمني والقضائي والتشريعي والإداري. .. كانت هذه الصيغة المغربية من العدالة الانتقالية التي قادها الراحل إدريس بنزكري ورفاقه في هيئة الإنصاف والمصالحة، وجلهم من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان على العهد السابق. وحتى وإن كانت في "الصيغة المغربية" خصوصيات كثيرة، وتنازلات كثيرة عن المعايير الدولية للعدالة الانتقالية، فإن أحدا لم يتصور أن تعود "حليمة إلى عادتها القديمة"، وأن تتبخر كل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وتراثها، وأدبياتها، وتعهدات الدولة تجاه الحقوق والحريات في ظرف وجيز (أقل من عشر سنوات)، وأن تعود السلطة إلى الاعتقال السياسي، وإلى محاكمة الصحافيين على آرائهم، وإلى ممارسة التعذيب في السجون، وإن لم يكن ممنهجا، وأن تعود حكومة سعد الدين العثماني إلى عادة وزير الداخلية السابق، إدريس البصري، في لعن المنظمات الحقوقية الدولية، واتهامها بالجاهز من القول، مثل "تسييس" التقارير الحقوقية عن المغرب و"الجهل بالواقع" وخدمة أجندة دول ومؤسساتٍ تكن عداوة فطرية للمملكة الشريفة ولمصالحها، ولفرادة تجربته وتقدّمها عن محيطها العربي الغارق في جهالةٍ ما بعدها جهالة ....
المجتمع الذي تنازل عن حقه في محاكمة الجلاد الذي عذب مواطنين مغاربة، والقصاص من قاض باع ضميره للسلطة، ومحاسبة السياسي الذي وضع إطارا لجرائم حقوق الإنسان، المجتمع الذي قبل طي صفحة الماضي، ودفن شهداء النضال واستخرج لهم شهادة وفاة، هذا المجتمع لم يصفح، ولم يغفر، ولم يتنازل عن حقوقه، لأن الدولة عوضت ضحايا الانتهاكات ماديا، وأقامت النصب التذكارية لذويهم، وكتبت آلاف الصفحات في الكتاب الأسود للمرحلة المظلمة. تنازل المجتمع عن حقه بوعد عدم تكرار ما جرى، وبأمل التطلع إلى مستقبل أفضل، وبنية أن لا يعيش الأبناء ما قاساه الآباء والأجداد، هذا هو الثمن الحقيقي (للعدالة الانتقالية) ولتجربة الإنصاف والمصالحة...
لو عاش إدريس بنزكري إلى أن يرى 360 معتقلا شابا يدخلون السجون اليوم، لأنهم تظاهروا في شوارع مدينة الحسيمة سلميا، من أجل جامعة ومدرسة ومستشفى وطريق وفرصة شغل وبعض من الكرامة، هل كان سيسكت عن جريرة فتح كتاب جديد من خروق حقوق الإنسان؟ لو عاش حتى رأى صحافيا (حميد المهداوي) يحكم عليه بثلاثة أشهر حبسا ابتدائيا ثم تصبح سنة استئنافيا، بتهمة الصياح في الشارع العام، مع أن للصياح فصولا في قانون الصحافة ليس فيها حبس ولا سجن، هل كان بنزكري سيغلق فمه، ويستسلم لنعومة الحياة فوق كرسي أو مجلس أو هيئة أو لقب...
لم يعرّ حراك الشباب فقط أعطاب التنمية في منطقة الريف، بل عرّى أيضا أعطاب نظام سياسي كامل، يعيد إنتاج أخطاء الماضي وانتهاكات الماضي وعقلية الماضي، حتى وإن غلفها بغطاء جديد، وخطاب جديد، وبروتوكول جديد، ولغة جديدة. كيف يمكن لبلادٍ أن تأكل وتنام وتتناسل وترقص وتغني وتثرثر، و360 شابا دون الثلاثين من العمر يقبعون في زنازين باردة، ويحاكمون على جرائم لم يرتكبوها؟ كيف سيصدّق المواطنون إنجازات حكومة العثماني وفريقه الذين يعيشون حالة إنكار جماعي، تستدعي منهم جميعا مراجعة طبيب نفسي.
الإصلاح الديمقراطي بناء متواصل، وهو يشبه ركوب دراجة هوائية، عندما يتوقف السائق عن الحركة لا يبقى في مكانه فقط، بل يسقط عن الدراجة. هذا ما يقع اليوم في المغرب، حيث توقفت عجلة الانتقال الديمقراطي عن الدوران، فسقطت البلاد في سلم احترام حقوق الإنسان، وها هي تأكل من رصيد تجربةٍ في العدالة الانتقالية، كانت نموذجا فريدا في المنطقة.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.