لعل المحاضرة المعنونة بـ "رصد التطبيع مع إسرائيل في الخليج" التي قدّمها اليوم الباحث والمتخصّص في العلوم السياسية والدراسات الإعلامية، أحمد صبري، هي الأكثر جرأة بين ندوات "أسبوع مقاومة الاحتلال والفصل العنصري الإسرائيلي"، حيث يخوض الباحث موضوعه ضمن توجه عام لمقاومة هذا التطبيع وتحويل مقاومته إلى نهج شعبي في بلدان الخليج العربي.
المحاضرة التي جاءت ضمن الأسبوع الذي تنظمه مجموعة"شباب قطر ضد التطبيع"، وعقدت في مبنى الإدارة العُليا لـ "جامعة قطر" في الدوحة، تضمنت جزأين؛ خصّص الأول لرصد التطبيع بين دول مجلس التعاون الخليجي ودولة الاحتلال الإسرائيلي بعد عامي 2009 الذي شهدت بدايته عدواناً على غزة.
أما الجزء الثاني، فيسلّط الضوء على خمس شركات متورطة في جرائم الاحتلال، مشيراً إلى أنّها ذات وجود كثيف في سوق الخليج، لافتاً الانتباه إلى "خطورة دورها في دعم الاحتلال في فلسطين".
بدايةً، ذهب الباحث إلى تقديم عرضٍ تاريخي للتطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، عائداً إلى اتفاقية "كامب ديفد" عام 1973، مبيّناً أن التطبيع، بعد ذلك، بدأ "يأخذ أشكالاً خطيرة ومؤسساتية وعلنية". ركّزت الورقة على مرحلة ما بعد العدوان الأول على غزة، عام 2008.
يوضّح صبري سبب اختيار هذه الفترة بكونها "شهدت تكرار تحذيرات حول موت مبادرة السلام العربية وأنها لن تبقى على الطاولة طويلاً، وتكرار التصريحات بموت حل الدولتين وانتهاء فرص السلام".
بعد ذلك، تطرّق إلى الإجراءات التي اتخذتها بلدان الخليج، وبعض البلدان العربية، تجاه "إسرائيل"، سواءً في مقاطعتها، أو السعي إلى إقامة علاقات معها؛ سياسياً واقتصادياً ورياضياً.. إلخ.
بدأ الباحث من الكويت؛ ففي آب/ أغسطس 2009، تواردت أنباء عن خطوات تطبيعية جديدة يتم مناقشتها بين الكويت والكيان، تتضمن السماح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق في أجواء الخليج، ومنح مقابلات صحافية لوسائل الإعلام الإسرائيلية وفتح مكاتب تجارية لإسرائيل.
وأشار صبري إلى لقاءات مع مسؤولين إسرائيليين نُشرت في الصحافة الكويتية خلال تلك الفترة؛ إذ "نشرت صحيفة "الرأي" لقاء مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، كما أجرت الصحيفة نفسها لقاء آخر مع عضو الكنيست الإسرائيلي شاؤول موفاز المتهم بالتورط في جرائم حرب منذ أيام خدمته في الجيش الإسرائيلي".
بالنسبة إلى عُمان، يعود الباحث إلى ما سرّبه موقع "ويكيليكس" حول العلاقة بينها وبين "إسرائيل". في عام 2000، انقطعت العلاقات العلنية بينهما إثر الانتفاضة الفلسطينية الثاني، لكن، وفقاً لوثائق "ويكيليكس"، فإن الحكومة العُمانية "رفضت حضور اجتماعات المقاطعة العربية حتى في جامعة الدول العربية". يضيف: "كما أوردت الوثائق زيارة وفد إسرائيلي لعمان. وورد اسم مركز الشرق الأوسط لأبحاث تحلية المياه كأحد المواقع التي تمت زيارتها في 2004"، موضّحاً أن المركز استُخدم في أغراض تطبيعية بين "إسرائيل" وبلدان أخرى، مثل الأردن وقطر والسلطة الفلسطينية.
البحرين، وفق الباحث، تزخر بأمثلة عديدة للتطبيع قبل حرب 2008 وبعدها. وكما جاء في وثائق "ويكيليكس" فإن ولي العهد "أبلغ شمعون بيريز بأن كل خطوة تخطوها إسرائيل نحو الفلسطينيين ستقابل بخطوتين من البحرين نحو إسرائيل".
من الأمثلة أيضاً التي أوردتها الوثائق، لقاء وزير الخارجية البحريني، خليفة بن أحمد آل خليفة، نظيرته الإسرائيلية تسيبي ليفني، وقد اعترف باللقاء ودافع عنه، و"دعا الوزير نفسه، في مناسبة أخرى، إلى إنشاء منظمة إقليمية تضم إسرائيل".
في ما يخصّ قطر، فإنّها لم تشهد منذ نهاية الحرب، تطبيعاً سياسياً واضحاً "باستثناء ما حصل في نيسان/ أبريل 2013، حين أعلن رئيس الوزراء القطري في واشنطن (ضمن جهد عربي مشترك) عن صيغة معدلة لمبادرة السلام العربية تضمنت إقرار فكرة تبادل الأراضي".
ويشير صبري إلى أنه رغم انحسار التطبيع السياسي، إلا "أن التطبيع الرياضي والفني لا يزال قائماً في قطر"، مُقدّماً أمثلة، منها تسجيل مشاركة إسرائيلية ورفع العلم في "أكاديمية التفوّق الرياضي" (اسباير) عام 2013، الذي شهد أيضاً استضافة حفل للموسيقار الإسرائيلي دانييل بارينبويم وابنه في "الحي الثقافي كتارا". وفي 2014، جرى استضافة الرياضية الإسرائيلية شاهار بير، كما شارك أربعة سبّاحين في بطولة سباحة.
يعود الباحث إلى شهر بعد انتهاء العدوان على غزة (2008 - 2009)، حيث "منحت الإمارات منح لاعب تنس إسرائيلي تأشيرة دخول للمشاركة في بطولة في دبي"، و"رفع علم إسرائيل للمرة الأولى في أبو ظبي خلال اجتماع للوكالة الدولية للطاقة المتجددة في حضور مسؤولين إسرائيليين". و"في أوائل 2010، أصبح وزير البنية التحتية الإسرائيلي عوزي لنداو أول وزير إسرائيلي يزور الإمارات رسمياً وعلنياً... وبعد الزيارة بثلاثة أيام فقط، أقدمت إسرائيل على اغتيال القيادي في حركة حماس محمود المبحوح في دبي".
و"في ديسمبر 2010، استضافت الإمارات فريق سباحة إسرائيلياً. وفي يناير 2014، زار الإمارات وزير الطاقة الإسرائيلي سلفان شالوم الذي سبق أن هدّد بحرب جديدة على غزة، للمشاركة في مؤتمر حول الطا و"في عام 2014 نقلت صحيفة "هآرتس" خبر فتح خط جوي سري وخاص بين دولة خليجية والكيان الصهيوني، يُرجّح أنها الإمارات".
أمّا السعودية، آخر البلدان التي تطرّق إليها صبري، فتتّخذ معظم مساراتها التطبيعية مع إسرائيل منحىً سياسياً؛ فيشير إلى أنه في عام 2014 "تحدّث ليبرمان عن علاقات سرية مع السعودية والكويت مدفوعة، حسب زعمه، بالعداء المشترك لإيران"، وكذلك الأمر بالنسبة إلى نتنياهو على صعيدٍ آخر؛ إذ "تحدّث الأخير، بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي في مصر، عن توافق إسرائيلي مع بعض دول المنطقة ضد الإخوان المسلمين وإيران".
أما في الجزء الثاني من الورقة التي قدّمها صبري، ينناول خمس شركات لها أفرع في بلدان الخليج العربي، مُشيراً إلى ضرورة مقاطعتها لإجبارها على وقف مساندتها للأعمال الاستيطانية.
الشركات هي "فيوليا" (Veolia) وهي شركة فرنسية، للخدمات البيئية في مجالات المياه وإدارة النفايات والطاقة والنقل ولها نشاطات استعمارية في الأراضي المحتلّة عام 1967.
ثاني الشركات هي "ألستوم" (Alstom) الفرنسية، التي تعمل في مجال توليد الطاقة والكهرباء والنقل كالسكك الحديدية. وكانت شريكة "فيوليا" في بناء خط الترام الذي يربط القدس مع المستعمرات والذي ينقل المستوطنين الصهاينة من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 إلى القدس الغربية.
إضافة إلى شركة الكمبيوترات المعروفة HP (هيولت باكارد) التي تُعدّ مزوّداً عالمياً لخدمات التكنولوجيا، كما أن لها نشاطاً كبيراً في المجال العسكري. ووفقاً لمعهد بحوث السلام الدولي في استوكهولم، فإن HP من أكبر الشركات المنتجة للأسلحة والخدمات العسكرية في العالم، لها وجودٌ مكثّف في فلسطين المحتلّة لحساب "إسرائيل".
رابع الشركات هي "كاتربيلر" الأميركية المتخصّصة في تصنيع أدوات البناء والتنقيب. صممت الشركة وصنّعت جرافات Caterpillar D9 لجيش الاحتلال، والتي تُستخدم في هدم بيوت الفلسطينيين وتدمير مزارعهم.
أخيراً، شركة "جي فور أس" (Group 4 Securicor)؛ شركة أمن متعددة الجنسيات مقرّها بريطانيا، وهي متواطئة مع الاحتلال في خرق قوانين حقوق الشعب الفلسطيني بشكل يومي، نتيجة عملها في الأراضي المحتلة وتطويرها أنظمة السجون التي يعاقب بين جدرانها قاصرون ومعتقلون كثر.
في ختام ورقته ينبّه الباحث إلى ضرورة تفعيل نداء مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها(حركة الـBDS)، وهو "نداء وجد صدى دولياً لكنه لا يزال مغموراً في العالم العربي بشكل عام ودول مجلس التعاون بشكل خاص".
وإن كان الباحث يقصد الآليات الجماعية التي طورتها حركة المقاطعة الدولية التي يمكن أن تستفيد منها المجتمعات العربية، إلا أن المجتمعات العربية لديها تاريخ أقدم في مقاطعة إسرائيل وحظر التعامل معها.
ما تكشف عنه المحاضرة، هو أنه رغم النماذج الصادمة لحالات التطبيع الرسمي في الخليج فقد بقيت محصورة بالمستوى الرسمي في ظل رفض الخطاب الشعبي والثقافي الخليجي لأي تطبيع مع "إسرائيل"، وهو امتداد للموقف الشعبي العربي في بلدان عربية أخرى شهدت تطبيعاً رسمياً مع الكيان الصهيوني.
اقرأ أيضاً: تمرير "إسرائيل" الثقافية