بعد الإحباط الذي أعقب الأمل الناتج عن الحراك الشعبي في الجزائر، عاد الشباب إلى خيار الهجرة السرية إلى الشواطئ الأوروبية، أملاً منهم بحياة أفضل بعدما عجزت الحكومة الجديدة عن تحقيق أي من وعودها، ما أفقدهم الأمل مرة أخرى
مع بدء الحراك الشعبي في الجزائر في فبراير/ شباط عام 2019، توقفت بشكل كامل رحلات الهجرة السرية، ولم تسجل السلطات أية محاولات للهجرة عبر البحر نحو السواحل الأوروبية من قبل الشباب لفترة طويلة، هم الذين شاركوا في التظاهرات ولاح أمل لديهم لإحداث تغيير سياسي في البلاد ينعكس على الواقع الاجتماعي والاقتصادي. لكن بعد عام ونصف العام، عادت الظاهرة بقوة بسبب تبخّر أحلام الشباب وتقلّص آفاق التغيير وعودة الإحباط واليأس السياسي والاجتماعي، إضافة إلى التضييق السياسي والإعلامي.
ولا يبدو أن الشباب في الجزائر مستعدون لمنح السلطة السياسية الجديدة، ممثلة بالرئيس عبد المجيد تبون الذي لم يكمل سنته الأولى بعد، فرصة طويلة لتنفيذ خطط الإنعاش الاقتصادي والاجتماعي، وانتظار نتائجها على المدى المتوسط. وبعدما شعر الشباب بالأمل ورفعوا شعارات من قبيل: "لن نهاجر، سنبقى هنا، لن نحرق (لن نهاجر)... سنحرق رؤوسكم (سنزعجكم بمطالبنا)"، قرر الكثير منهم المغامرة مجدداً والسعي إلى الهجرة السرية من خلال مراكب تقليدية، على الرغم من المخاطر الكبيرة. وعادت الأخبار المتعلقة بإحباط محاولات الهجرة أو وصول مهاجرين إلى السواحل الإسبانية والإيطالية تتصدر نشرات الأخبار واهتمامات الجزائريين.
منذ بداية شهر يوليو/ تموز الماضي، أحبط خفر السواحل الجزائري محاولات هجرة سرية لنحو 472 مهاجراً. وقبل أيام، أوقف 103 مهاجرين، إضافة إلى 146 مهاجراً كانوا على متن قوارب تقليدية الصنع في كل من وهران وتلمسان غربي البلاد، وعنابة وسكيكدة والطارف شرقي البلاد خلال عمليات عدة. وفي 25 يوليو/ تموز الماضي، أعلن خفر السواحل إحباط محاولات هجرة سرية لـ 218 شخصاً كانوا على متن قوارب تقليدية الصنع في كل من الشلف ووهران ومستغانم وعين تموشنت غربي الجزائر.
وتشير تقارير صحافية إسبانية إلى أنه خلال فترة قصيرة، وصل أخيراً أكثر من 400 مهاجر جزائري إلى السواحل الإسبانية، كانوا على متن 31 قارباً، وتم وضعهم في مخيمات تسهر عليها الشرطة". ونشرت صحيفة "الإسبانيول" الإسبانية تقريراً عن وصول 457 مهاجرا جزائريا إلى ساحل جزيرة موريس، وقد تم توقيفهم من قبل الشرطة الإسبانية. وذكرت أن السلطات تواجه مشكلة نقص في أماكن الاحتجاز ومعدات الوقاية الصحية في ظل أزمة كورونا ومخاوف من تفشيه بين المهاجرين في مراكز الاحتجاز.
ويعزو باحثون عودة الهجرة إلى الأخبار المتعلقة بتسوية إيطاليا أوضاع المهاجرين السريين والمقيمين بطريقة غير شرعية في البلاد، ومنحهم أوراق إقامة شرط عملهم في مصانع أو مزارع، بهدف تعويض نقص اليد العاملة في إيطاليا بعد تفشي جائحة كورونا التي خلفت آلاف الضحايا في إيطاليا. وتشبه هذه الموجة تلك التي شهدتها أوروبا (انطلاقاً من السواحل الجزائرية ودول المغرب العربي) خلال استقبال الدول الأوروبية اللاجئين السوريين. ويعتقد أن الشباب المهاجرين اختاروا هذا التوقيت مستفيدين من عامل الطقس الدافئ، وانشغال القوى الأمنية والشرطة في الدول الأوروبية المطلة على المتوسط بأزمة كورونا وفرض تدابير الوقاية، أكثر من انشغالها بمراقبة السواحل.
ويعتقد متابعون للملف أن العوامل التي تؤدي إلى الهجرة السرية لدى الشباب الجزائري ترتبط أساساً بالمعطيات السياسية الراهنة ومؤشرات التغيير ومقارنتها مع سقف المطالب التي أطلقت خلال الحراك الشعبي. إلا أن عودة الهجرة السرية في البلاد نحو السواحل الإيطالية والإسبانية تؤشر بوضوح إلى تراجع الثقة بالوعود التي أعلن عنها الرئيس عبد المجيد تبون، وتراجع الأمل في حدوث تغيير سياسي واجتماعي واقتصادي في وقت قريب، بالمقارنة مع التوقف التام لرحلات الهجرة السرية عبر البحر بعد بداية الحراك الشعبي في 22 فبراير/ شباط الماضي، بعدما تأملوا حدوث تغيير في السياسات العامة.
إلى ذلك، يقول الباحث الأكاديمي عمار سيغة لـ "العربي الجديد": "تزداد نسبة فقدان الثقة في السلطات منذ وصول تبون إلى الرئاسة، والوعود المقطوعة لم تجد محلها من التحقيق. للأسف، تطغى الشعبوية على الخطاب الرسمي، فيما نراقب الجارتين تونس والمغرب كيف تتعامل حكومتيهما مع جائحة كورونا، بل وتفوقهما على البلد الأقوى إقليمياً، في وقت ما زلنا نفتقد لأسطوانات الأوكسجين. يضاف إلى ذلك عجز الدولة عن التكفل مادياً بالمتضررين من الحجر الأول، من تجار وعاملين في مهن خدماتية كالنقل، ما أدى إلى معاناة المواطن الجزائري".
ويلفت سيغة إلى أن المؤشرات السياسية ترتبط مباشرة بالإحباط المجتمعي لدى الشباب، موضحاً أن "ارتباك السلطة في مسائل سياسية كصياغة دستور يستجيب لطموحات الشعب الذي شارك في الحراك الشعبي، واستمرار تحييد الأصوات التي نادت وما زالت تنادي بالمزيد من الوضوح والشفافية في قيادة البلاد واليأس السياسي، كلها عوامل تدفعهم إلى الهجرة". ويرى أن "القيادة في الجزائر تعيّن رجالا كبارا في السن في مناصب يعدّ الشباب أولى بها، إضافة إلى استمرار عامل الولاءات بدلاً من الكفاءات، عدا عن الضغوط التي تمارس على وسائل الإعلام لتلميع صورة مصطنعة عن السلطة. بالتالي، يلجأ الشباب مجدداً إلى قوارب الموت".
يشار إلى أنه على الرغم من مصادقة البرلمان الجزائري في عام 2009 على قانون يجرّم الهجرة السرية، ويعاقب أصحابها بالسجن لفترة تزيد عن ستة أشهر، وتجريم عناصر شبكات الهجرة السرية وإصدار أحكام عليهم بالسجن لمدة خمس سنوات، إلا أن الجزائريين اعتادوا الاستيقاظ خلال السنوات الأخيرة، على أخبار توقيف أو غرق أو وصول مهاجرين إلى السواحل الأوروبية.
وتغيب إحصائيات رسمية جزائرية حديثة حول عدد المهاجرين. في المقابل، كشف آخر تقرير للرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان في 18 ديسمبر/ كانون الأول عام 2018، أن ألفين و160 مهاجراً سرياً غرقوا أو أصبحوا في عداد المفقودين منذ مطلع العام نفسه.