شانتال أكرمان: "ممرّات" في حياة من الصمت والتجريب

01 يوليو 2020
ترجمت أكرمان قلقها الإنساني والنسوي إلى نحو 40 فيلماً (Getty)
+ الخط -

مع عودة الحياة إلى المؤسسات الثقافية والمتاحف الأوروبية، بعد التخفف من قيود الإغلاق الذي فرض جراء فيروس كورونا، أعلن متحف "العين" للفيلم في العاصمة الهولندية أمستردام.، عن افتتاح أبوابه من جديد أمام جمهوره بمعرض استثنائي خصّصه المتحف -لأوّل مرة في تاريخه- لواحدة من صنّاع السينما التجريبية الأكثر تأثيراً في العقود الثلاثة الماضية، ألا وهي المخرجة البلجيكية شانتال أكرمان (1950 - 2015)، والتي عُرفت بريادتها في الدفاع عن السينما التجريبية وسينما المرأة تحديداً. جاء هذا الإعلان المفاجئ، ليعيد اسم المخرجة البلجيكية، التي غادرت الحياة منتحرة في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2015 بعد معاناة طويلة مع الاكتئاب، إلى الواجهة الأوروبية من جديد، خاصة بعدما قدّم المتحف، قبل جائحة كورونا، ثلاثة معارض ضخمة عن سينمائيين أوروبيين وغربيين كبار، هم: ستانلي كوبريك ومايكل أنجلو أنطونيوني وأندريه تاركوفسكي، لتكون أكرمان هي رابع مخرج، وأوّل امرأة، يتم اختيارها من قبل المتحف لتخصيص معرض ضخم لأعمالها.

يضم المعرض الذي جاء تحت عنوان "ممرّات"، ثمانية أقسام لأعمال أكرمان السينمائية والتجريبية في مجال الفيديو آرت، وأغلبها من الأعمال التي نجحت في وقت مبكّر من تسعينيات القرن الماضي في ترسيخ مفهوم السينما التجريبية والنسوية على حد سواء.

الأم الصامتة ولدت شانتال أكرمان في السادس من يونيو/حزيران 1950 في العاصمة البلجيكية بروكسل، لذلك يأتي المعرض متزامناً أيضاً مع الاحتفال بمرور 70 عاماً على مولد المخرجة الطليعية، وهي وإن كانت طفلة لأبوين يهوديين من أصول بولندية، إلا أنها كبرت بلسان فرنسي وهوية بلجيكية. في سنوات شبابها الأولى، حدث أن قادتها المصادفة عام 1965 إلى مشاهدة فيلم جان لوك غودار، "بيرو المجنون"، لتقرر أكرمان، وهي ابنة الخامسة عشرة فقط، أن تكون صانعة أفلام هي الأخرى، وبالطريقة التي تريدها هي، لا صانعو السينما. ربما هذا الإصرار المبكّر هو ما جعل شانتال أكرمان تحارب طيلة حياتها لتنفيذ ما تريد، ومع اصطدامها الدائم طوال مشوارها مع عقليات السينما التجارية ومواصفاتها الرخيصة، ترجمت أكرمان قلقها الإنساني والنسوي إلى نحو 40 فيلماً، تنوّعت بين السينما الخيالية والوثائقية، كما لم تبخل بتجاربها المثيرة في مجالي الفيديو آرت والكولاج الصوري المتحرّك. ارتبطت أكرمان بعلاقة معقّدة مع والدتها، وهو ما نجده واضحاً في ثنايا أفلامها، فأمها عاشت لفترة في معسكر أوشفيتز النازي بصحبة ابنتها الطفلة آنذاك، لكنها لم تحك طوال حياتها أي كلمة عن هذه الفترة داخل المكان الرهيب لابنتها، ما شكّل علاقة غريبة بين الأم وابنتها، قوامها المحبّة والقمع في الآن ذاته، وربما كانت هذه العلاقة بين أكرمان وأمها هي السبب الحقيقي في إصابتها بالاكتئاب لسنوات طوال، وكان آخر أفلام المخرجة عام 2015 بعنوان No Home، وهو عمل وثائقي عن علاقتها بوالدتها، التي ما إن رحلت في بدايات 2015، حتى نفّذت أكرمان قرارها بالانتحار يوم الخامس من أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته. كانت أكرمان رائدة السينما "الاستثناء" منذ بدايتها. هي التي رسّخت ما يمكن لنا تسميته بـ"السينما البطيئة"، تلك التي بنتها على أساس مركز واحد هو أفكارها ورؤيتها الشخصية جداً للعالم وما يحكمه من صراعات، ومن أهمها صراعها الداخلي كامرأة مثلية الجنس، وهو ما تبدّى أيضاً في بعض كتبها التي أصدرتها خلال حياتها، خاصة في كتابها "ممرّات"، الذي أعاد المعرض نشره واتّخذه عنواناً لفعالياته التي تستمر حتى نهاية أغسطس/آب المقبل. في هذا الكتاب، توضح أكرمان العلاقة بين أفلامها واشتغالاتها التشكيلية والبصرية التي منحت للجسد البطولة المطلقة فيها. وبالإضافة إلى نشاطها السينمائي، كانت أكرمان أيضاً محررة وكاتبة سيناريو وممثلة وكاتبة، فأصدرت قصتين هما "عائلة في بروكسل" عام 1998، و"أمي تضحك" في 2013. الأرملة تقشّر البطاطس نادرًا ما نجد شخصيات شانتال أكرمان النسائية في عجلة من أمرهن، بل إن قانونهن الرئيس هو البطء، والبطء القاتل الذي يمنح المشاهد الكثير من الارتباك والملل، لكنه حين يخرج من الفيلم، يكتشف أنه يذكر كل تفصيلة بفضل هذا البطء الذي لم تعرفه السينما من قبل حتى ظهور أكرمان، وربما كان فيلمها الشهير عن الأرملة جان ديلمان (1975) أكبر دليل على هذا التوجّه، فالفيلم الذي يستمر إلى ما يقرب من أربع ساعات، تحوّل إلى علامة فارقة لترسيخ مفهوم السينما البطيئة في العالم، ومارس هذا العمل سطوته على صناع السينما الجدد في أوروبا وأميركا على مدى العقود الأربعة الماضية، من خلال حياة الأرملة جان ديلمان التي تعيش وحيدة مع ابنها المراهق بعد موت زوجها، والتي تتحوّل إلى عاهرة بمواعيد محددة تستقبل فيها زبائنها في بيتها لتستطيع مواجهة الحياة. تعمدت أكرمان في تحريكها لبطلة فيلمها الممثلة الفرنسية ديلفين سيرج Delphine Seyrig أن تكون كل أفعالها بطيئة، حيث لا شيء في الحقيقة يحدث، فالمشاهد يتابع الممثلة وهي تفعل أشياءها اليومية كما يفعلها أي شخص في بيته، فنرى ديلمان لدقائق طويلة في مطبخها أو تعيد ترتيب فراشها بعد مغادرة زبائنها، أو تكوي ثيابها أو تنظف المطبخ أو تقشّر البطاطس استعداداً للطهو، وقد يتساءل من يبحث عن الدراما أو علم النفس: لماذا تقشر جان ديلمان البطاطس أحياناً ببطء وأحياناً أخرى بسرعة؟ 

المؤكد أن هذا البطء سيكون هو السر في أن جميع من شاهدوا الفيلم لا يزالون يتذكرون تسريحة المرأة الأنيقة، ودبوس شعرها المعتنى به، كأنه يفسر مقاومتها كل عناق تجبر على ممارسته حين تستقبل زبائنها. هنا، يأتي دور محللي النفس وتلامذة فرويد. القوة الحقيقية لهذا الفيلم هي أنه يقدم لنا حياة امرأة عادية، مجرد شخص عادي لا أهمية له على الإطلاق، ما جعله ليس فقط عملاً مهماً، لكنه أيضاً فيلم لا ينسى، ومن ثم تم اختياره كأحد أهم مائة فيلم في تاريخ السينما على الإطلاق. مشهد منذ 47 عاماً لم تستسلم أكرمان لمحاولات تصنيفها تحت فئات بعينها، سواء كإنسان أو كمخرج، بل نوّعت في نتاجها التجريبي بين الأفلام الروائية والوثائقية وأعمال الفيديو، والتي بلغت 43 فيلماً قدمتها شانتال في الفترة من 1968 وحتى عام انتحارها 2015. بل لم تتردد في تقديم فيلم مسرحي موسيقي عام 1986 بعنوان Golden Eighties. وفي 1995 ذهبت لتحرّي الحياة في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في فيلمها D'Est، وفي 1996 قدمت كوميديا رومانسية بعنوان A Couch in New York من بطولة جولييت بينوش ووليم هيرت، وفي سنة 2000 قدمت فيلمها La Captive، والذي يعتبر اليوم أحد أهم عمليات النقل السينمائي القليلة المقنعة لأعمال مارسيل بروست. كذلك، لا ننسى أن أكرمان كانت صاحبة أول مشهد جنسي مثلي غير إباحي في تاريخ صناعة الفيلم، مع النهاية المتقنة لفيلمها القصير Je Tu Il Elle عام 1974. وبالرغم من هذا التعدد والثراء الذي حظيت به أفلام أكرمان، إلا أنها رفضت محاولات تصنيفها كرائدة للأفلام النسوية، وقالت في مقابلة عام 2001 مع "بي بي سي": "عندما سُئلت عما إذا كنت صانعة أفلام نسوية أم لا، قلت إنني امرأة وأقوم أيضاً بإنتاج وصناعة الأفلام".

كانت بداية أكرمان مع السينما عام 1968، حين قدمت وهي في الثامنة عشرة من عمرها فيلمها الأول Saute ma ville وقامت هي بتمثيله، في صورة فتاة هزلية مشغولة بتنظيف غرفتها، فتمسح الأرض، تنظف أحذيتها وساقيها، تقرأ الصحيفة أو تكتب الرسائل أو اليوميات، وفي النهاية تفتح البطلة أزرار موقد الغاز وفي يدها باقة زهور لا تزال ملفوفة، إلى أن يأتي صوت الانفجار المدوى لتتحول الشاشة إلى اللون الأسود وصمت طويل. ليس من المدهش إذن أن تنتحر أكرمان بعد 47 عاماً من تصويرها هذا المشهد، كأن مشهد البداية والنهاية واحد، لم يتغير فيه شيء، سوى ما تركته لنا شانتال أكرمان من أفلام ستظل عالقة في الذاكرة، لا لشيء إلا لأنها حقيقية وصادقة إلى أبعد درجة يمكن تخيّلها.

 

المساهمون