شادي زقطان: غيتار متجوّل يغنّي منفرداً

07 سبتمبر 2020
الحرية موضوع أساسي للفنون (فيسبوك)
+ الخط -

أضحى المُغني والموسيقي الفلسطيني شادي زقطان من الأسماء العربيّة التي حظيّت مُؤخراً باهتمامٍ بالغ من الجماهير. تهجس أعمال زقطان بالألم والتمرّد وخيّبات الإنسان العربي، كما أنّها تتميّز بسحر الكلمة وتقطعها في حنجرة شادي زقطان، يمزجها بصوت مُنفرد مع عذوبة الغيتار.
عن تجربته الفنية وعوالم الأغنية وتقاطعاتها بين السياسي والجمالي وواقع الأغنية الفلسطينيّة، كانت لـ "العربي الجديد" هذه المقابلة مع شادي زقطان.

بداية، متى وأين وكيف، بدأت مشوارك الفني؟
* لا شيء أكثر شاعرية من ثورة، مجانين يثورون على العالم أو على فكرة أين سيذهب العالم، أين نحن الآن ‎وعالم أكثر جنوناً يقصفهم ليل نهار من كل مكان. كانت البداية هكذا، أنت في عالم قد يرسل جيشاً كاملاً ليحاصر فكرة، قد تعلن دولاً الحرب على مجموعة من الأحلام العادلة، كانت الأغنية هي طريقتي بالبرد وطريقتي بأن أحاول أن أكون، أنْ أُغني وأقول شيئاً خير من أنْ لا أفعل أيّ شيء. وكنت أيضاً محاطاً بعدة كُتّاب وموسيقيين وأصدقاء منتجين، شجعوني على فكرة وضع أفكاري في ألبوم، الحظ ساعد أني ولدت في زمن كانت فيه الأحلام الكبيرة ما تزال حية، وأرى أن هذه الرومانسية تأتي من هناك.

ما مدى تأثير المنفى على تجربتك الموسيقية، خاصّة وأنك عشت مُذْ كُنت صغيراً بين دمشق ولبنان وتونس؟
* أنت لا تدرك أنه منفى إلّا بعد أنْ تصل إلى البيت، آنذاك كان هو البيت، وكانت بيوتاً دافئة بمشاركتنا بردها الذي تمنحه لأولادها. المنفى أمّ قاسية ولكنها أمّ؛ أمهات قاسيات، عمان ورام الله أيضاُ وبرلين في الوقت القريب، البحث عن البيت ما يزال مستمراً، أو هكذا يبدو. أعتقد أنه البحث عن المنفى، المنفى الساحر والملوّن، الغني والواعد. هنا تأثير المنفى، أنك تريد المزيد منه لأنه يغني الروح والتجربة، يسقيها ماءً جديدة، يشبه أن يكون لك أكثر من أنت واحد، أنت قلب مختلف في كل منفى، ذاكرة مختلفة، خريطة مختلفة، شرفات وقهوة وعطور مختلفة، صباح الخير وأغانٍ مختلفة، وكلها إضافة إلى عالمك، محظوظ أيضاً بمنافٍ غنيّة بكل شيء، هناك حنين دائم إلى المنفى.


إلى جانب البُعد الجمالي والشعري، الذي يُميّز أغانيك، نلمح من حين لآخر أبعاداً سياسية خفيّة مُضمرة بشكلٍ فنيّ في ثنايا خطابها. هل تعتقد أنّ جرح السياسة لم يندمل بعد وأنّ الموسيقى هي الأخرى بإمكانها كباقي الفنون أنْ تُوجه نقداً لطبيعة الأنظمة وغيرها؟
* قد تنجح بعض الفنون في وضع مكياج ملوّن على جروحها، ولكن الوضع مختلف تماماً في فلسطين؛ الصراع محتدم ولم يتوقف، لا تستطيع الغناء بحق إن لم يكن ما يحدث على الأرض جزءاً من أغنيتك، قد يبدو في المستقبل عندما يعود الباحثون إلى المحتوى الثقافي لهذا العصر في المنطقة العربية، سيعتقدون أنّنا كنا في حالة حبّ عنيفة ومستمرة، وأنّ جميع قضايا المجتمع قد تم التعامل معها، أو هكذا سيبدو المشهد من المستقبل. كحال معظم الأغاني القادمة من هنا، وكتابها، أحاول الاقتراب دون ابتذال لما هو يومي وحقيقي، وهنا تطغى المعطيات السياسية على يومك، على أفكارك، تحتلها. إن لم تتحدث، على الأقل، الفنون عن الحرية في عصر الهزيمة السعيدة، عن ماذا سنتحدث ؟

في مُجمل أغانيك نلمح هذا الشغف الكبير لديك بالشارع وتفاصيله اليوميّة البسيطة، التي تعمل على استعادتها داخل قالب موسيقيّ هادئ ونصّ مُحكّم ومتين من حيث بنيته وشعريته. في نظرك، كيف تستطيع آلة الغيتار أنْ تحمل كل هذا التشرّد والألم والمعاناة، التي تحبل بها الشوارع العربيّة، تجاه الأنظمة والمليشيات السياسية؟
* الغيتار آلة للتشرد كما قُلْتَ، تخيّل أنّ تحمل بيانو معك، أعتقد أنها آلة إعلامية، تستطيع الأوركسترا العمل من دون غيتار ويستطيع الغيتار العمل منفرداً، آلة شارع لمن يريد أن يقول شيئاً، والحقيقة عندنا في الشارع، كل الشوارع، قد يعزف الغيتار ألحاناً، ولكنه رفيق جيد لقاصٍ أو مغنٍّ جريء. الغيتار جزء من آلات كثيرة وحناجر وأقلام، تتحدث وتصرخ لتعلن وجودها واحتجاجها، وثورتها القادمة بالتأكيد، ثورة واعية وشابة، ثورة على كل شيء.

ثمة طفرة فنية في أغانيك الأخيرة، إذْ إننا نستمع إلى كوكتيلٍ مُتنوّعٍ من زخم القوالب والآلات الموسيقية وأنواعها، التي ساهمت في تجديد تجربتك. كيف جاء التفكير في هذا المزج الفني على المستوى الموسيقي مع حفاظك على نفس شكل الأغنية؟
* الاستكشاف، اللعب، العمل مع عازفين لطالما كانت آلاتهم متخيّلة في الأغاني، بالإضافة إلى الوضع العام وتأثيره على ما قد ينتج فنان ما، التسارع العجيب في ذهاب العالم إلى اللامكان، الاختلال في كل شيء والفوضى، محاولة الخروج من الدائرة الآمنة أيضاً، أنا والغيتار وأغانٍ جدية، حاولت أن أكون أكثر حرية مع الأغاني، بعيداً عن أهمية الرسالة السياسية أو الاجتماعية الواضحة، كل ما نحس به مهم، عملك بالنهاية هو حوارك مع نفسك أولاً، ربما سيزيد الصخب، كلّما حاولت الاقتراب من نفسي أكثر، في ما يتعلق بالموسيقى والأغاني.

في أغانيك هنالك حرص كبير على سحر الكلمة، هل يُمكن أنْ نقول إنّ تأثير الوالد، الشاعر غسان زقطان، كان كبيراً على تجربتك على صعيد التأليف الموسيقي لديك؟
* لم يتدخل والدي في تجربتي بمعنى التدخل، ما زادني إرباكاً، هو دائماً مستمع خفيّ يجلس معي، وتجربتي معه أنا كقارئ له جعلت من كتابة نص أغنية عملاً جدياً وعملية بناء وهدم، أو عملية إعدام قاسية أحياناً. وبعيداً عن الإلهام؛ فإن كتابة وطرح نص هو عمل جدي جداً. أحاول حمل النصوص على الموسيقى واللحاق بها صوتياً، ولطالما جهدت للابتعاد عن المبالغة، لذلك أرى أنّ التطوّر الطبيعي للقصيدة الشرقية إن جاز التعبير هو الأغنية.
جدي مثلاً شاعر نستطيع أنْ نقول إنه كلاسيكي، لغوياً على الأقل، ووالدي كما ذكرت موجود، بقصيدته الحرة من القالب الكلاسيكي. أحب أن أفكر في أنني استكمال لمسار القصيدة كشاعر غنائي، هناك ابن آخر لغسان، أخي مكسيم، هو فنان تشكيلي، أخذ القصيدة إلى الشكل وليس الصوت، والدي مسبب لي في الكثير من الأسئلة والوقفات على الكثير من المواضيع الصغيرة والكبيرة لمن حوله، بالتأكيد أنا محظوظ بوجودي قرب تجربة غنية مستمرة كتجربة والدي وأحاول دائماً إيجاد طريقي الخاصة والتي ليس عليها التقاطع والابتعاد كثيراً عن هذه الشجرة.

في الساحة الفلسطينيّة تجارب عدة على صعيد الموسيقى الجديدة، إذْ ثمة الكثير من الفرق والأصوات التي حققت حداثة مُبكرة على صعيد الشكل والموضوع. إلى أيّ حد في نظرك ساهمت الأغنية الفلسطينيّة الجديدة في تجديد أو الحفاظ على هوية الأغنية داخل فلسطين؟
* لم يكتشفوا بعد، الخبراء الخبثاء الدؤوبون، طريقة باحتلالنا موسيقياً أو احتلال الموسيقى فينا. الأغاني هي سلاحنا العابر للحدود والحواجز العسكرية، نحن نعيش حالة احتلال عسكري مباشر لوحدنا، ونتقاسم أيضاً حالة الانحدار المدني والسياسي والثقافي مع جيراننا. الأغنية العربية الشابة بشكل عام فرضت وجودها كوسيلة أو كفعل ثوري على الواقع، على الهزيمة السعيدة المستمرة، وفي فلسطين أيضاً ثارت الأغنية. كثافة وتركيز المشهد هنا أنضجا التجربة الفلسطينية مبكراً ومنحاها تنوعاً لافتاً في السنوات الأخيرة. أصبحت الأغنية الفلسطينية أكثر حرية وأقرب إلى الحقيقة. الابتعاد عن دور الضحية أو البطل. تغيرت ألوان الأغنية الفلسطينية بالتأكيد، ومعظم الفرق النشيطة هي فرق موسيقى بديلة أو حديثة تقدم أغاني أحب أن أفكر في أنها أبقت على هويتها وأضافت إلى الهوية العامة ألواناً جديدة شجاعة.

المساهمون