سِلو بلدنا

28 يونيو 2020
+ الخط -
"يارب يطلّعوا علاء عبد الفتاح وأخته سناء من السجن، ويخلوا العيلة كلها تسافر بره مصر وتشوف حياتها عشان احنا نرتاح من وجع القلب ده ونشوف حياتنا"، هكذا أرسل لي زميل الدراسة بعد أن نشرت على صفحتي في "فيسبوك" تدوينة يروي فيها المحامي خالد علي تفاصيل ما جرى لأسرة علاء عبد الفتاح من اضطهاد، خلال الأسابيع الماضية، لمجرد أنّ والدته الدكتورة ليلى سويف تطلب تطبيق لائحة السجون ومنحها حق إرسال وتلقي خطابات من ابنها المعتقل، لتطمئن على أحواله في ظل تفشي وباء كورونا في السجون.

حين نشرت قبل ذلك فيديو تروي فيه منى سيف أخت علاء وقائع الاعتداء الذي تعرضت له مع شقيقتها سناء ووالدتها الدكتورة ليلى، أمام أعين ضباط سجن طرة عقاباً على مطالبتهن بأبسط حقوقهن في الاطمئنان على علاء، أرسل لي أكثر من متابع لصفحتي رسائل يمكن تلخيص مضمونها كالآتي: "حرام عليك يا أخي.. احنا هنستفيد إيه لما بتنشر الكلام ده.. لا هنعرف نعمل حاجة ولا هنستفيد غير تأنيب الضمير والقهر.. يمكن تحس إنك بتعمل اللي عليك وخلاص.. لكن احنا عايزين نتابعك من غير ما نتعب أعصابنا.. فيعني ارحمنا والنبي"، وهي رسائل أتلقى ما يشبهها طيلة السنوات الماضية كلما نشرت ما يخص المساجين وأسرهم وذويهم.

لو كان زميل دراستي وأصحاب هذه الرسائل أشراراً يبهجهم الظلم ويشعرهم بقدرة دولة السيسي على الشكم والبطش، لما أرسلوا لي يعترضون على ما أنشره، بل لربما فعلوا مثل ما يفعله الذين يرسلون لي مبتهجين بالأحوال المؤسفة التي يعاني منها المعتقلون، ويبدون أسفهم لأنني أفلتّ منها، متمنين أن ينالني من الشكم جانب في المستقبل، أما زميلي وأمثاله فيضايقهم نشر كل ما له علاقة بمعاناة المعتقلين، لأنهم يعرفون بالفعل أنهم يعيشون في دولة ظالمة، ولا يحتاجون إلى تفاصيل تؤكد ذلك، ويرغبون في أن يمضي يومهم بأقل قدر ممكن من الخسائر المعنوية، ويعلمون أن الدولة لا يزعجها أن تفضح ظلمها وجبروتها، بل يسعدها ذلك لأنه يساعد في توصيل رسالتها بأنها لن ترحم كل من يفكر في الخروج على سطوتها، وهو ما لم يدركه كثير من الذين لا يكفون عن التساؤل عما تريده الدولة من وراء ذلك القمع العشوائي الذي لا يبدو أن له هدفاً أو خطة، مع أن عشوائيته وجنونه هما الهدف والخطة.

قبل اعتقال سناء سيف، أرسل لي أحد المنزعجين مما أنشره من حين لآخر، يطلب مني بوصفي محباً للأسرة أن أنصح الدكتورة ليلى وبناتها بأن يتوقفوا عن استفزاز النظام، ويلجأوا للتفاوض معه بعد أن تهدأ الأمور قليلاً، ولأنه بدا لي من رسائل سابقة شخصاً محترماً، فقد اكتفيت بتنبيهه إلى أن من العيب أن يكون كل ما نفعله حين نرى الظلم، أن نبادر إلى لوم المظلوم وتكسير مقاديفه، خصوصاً إذا كان لا يطلب المستحيل، ولا يطلب منا أن نتضامن معه بما يعرضنا للخطر، بل أن ننشر معاناته أو نتعاطف معها، فاتهمني بإساءة فهمه، مؤكداً أنه ليس بحاجة إلى أن أذكره بظلم النظام، لكنني على ما يبدو أحتاج لمن يذكرني بحقارة النظام وانحطاطه، وأنه يعتقد أن حركة أمهات المختفين قسرياً التي قلبت الدنيا في الأرجنتين أيام الحكم العسكري، لو ظهرت لدينا لتمت تصفيتها في يومين، ولذلك يرى أن على الدكتورة ليلى وبناتها أن يقتدوا بأهالي معتقلي جماعة الإخوان الذين تعودوا عبر السنين أن يفوضوا أمرهم لله، ولا يقوموا بأي أفعال تزيد من استفزاز النظام وتدفعه للتنكيل بأبنائهم أكثر، ليس لأنهم يستخسرون التضحية من أجل أبنائهم، بل لأنهم يعلمون أن أي مقاومة ستمنح النظام فرصة جديدة للتنكيل بهم ومضاعفة خسائرهم الإنسانية.

لن أكذب عليك، لم أجد ما أختم به ذلك الحوار الكئيب، سوى الغمغمة الكتابية بعبارات تسأل الله الرحمة والصبر، وتدعو على الظالم والمفتري وأبناء الحرام، لأنني تذكرت الرسائل التي أتلقاها أحياناً من بعض أهالي المعتقلين، يرجونني فيها أن أقوم بحذف ما أنشره عن أبنائهم، لأن ذلك لن يخدم وضعهم في السجن، وسيخرجهم من فئة المظلومين الصامتين إلى فئة المظلومين المثيرين للقلق الذين يحب ضباط السجون الحط عليهم والتنكيل بهم، واستعدت مناقشة سابقة مع زميل دراستي قال لي فيها إنه أحياناً يشعر بالغضب تجاه الدكتورة ليلى سويف وبناتها، لأنهم بإصرارهم على المقاومة يشعرونه بالهوان والعجز، وهو شعور يشاركه فيه آخرون يرون أن أفراد عائلة أحمد سيف الإسلام يخرجون بكل ما يفعلونه على "سِلو بلدنا" الذي يطلب من أهل المعتقل وأقاربه وأصدقائه أن يذعنوا لإرادة السلطة، وألا يفكروا في مقاومة ظلمها بما هو أبعد من عرائض الاسترحام والاستعطاف، دون حتى أن يلحوا في إرسالها أكثر من اللازم، مستسلمين لاختيار السلطة في التعامل مع من اختطفته، ليصبح الإفراج عنه أو تحسين ظروفه مرهوناً بمشيئتها العلية.  

في خيالنا الجمعي، على المعتقل السياسي أن يستسلم تماماً، ويدرك أن المقاومة لن تفيده، وعلى أهله أن يفوضوا أمرهم لله، ويكتفوا بتحري ساعات الاستجابة للدعاء على الظالم، وحين تأتي ساعة الفرج، بعد أن يطيح أحد بالظالم عن كرسي الحكم، أو حين يقرر الاستجابة للضغوط الخارجية التي تطالبه برفع حذائه عن رقبة الشعب قليلاً، أو حين يأتيه هاتف في المنام يوصيه بقليل من الرأفة، أو حين يأتيه عزائيل، وعندها سيخرج المعتقل ليجد أمه وقد كُفّ بصرها من فرط البكاء، وسيجد زوجته وقد ذوى شبابها وابيضّ شعرها، وطفلته وقد أصبحت على وشّ جواز، وابنه الرضيع وقد نبت شاربه، هذا في أحسن الأحوال بالطبع، لأن بلادنا لديها دائماً القدرة على تجويد الأسوأ، والإدهاش بالأحقر.

لذلك، تربك عائلة علاء عبد الفتاح الكثيرين وتزعجهم، حتى لو كانوا متعاطفين معها، لأن فعل المقاومة يرتبط دائماً في أذهاننا بالجدوى، خصوصاً أن أغلبنا تشكل وعيه السياسي والاجتماعي في عهد حسني مبارك، حين كانت الدولة تستجيب أحياناً للضغوط التي تمارس عليها من قبل الجهات المانحة للقروض والمعونات، وترغب في تحسين صورتها الدولية، ولذلك يحرص نظام السيسي على أن يثبت لنا من خلال تعامله مع جميع المعتقلين السياسيين، أن قواعد اللعبة تغيرت تماماً، وأن الجهات المانحة والداعمة لا تبالي إلا بالتعاون الكامل مع إسرائيل وتقليل قوارب الهجرة الجماعية إلى أدنى حد ممكن والامتثال لطلبات صندوق النقد الدولي، ولذلك ليس لدى النظام أدنى مانع أن يسمح لضباط أمنه بالعودة إلى كتالوج مبارك ليخرجوا منه وصفة استخدام الشراشيح للاعتداء على أم وبناتها أمام أعين الضباط، قبل أن يعتقلوا سناء لتلحق بأخيها ويبدأوا في رحلة تكديرها هي أيضاً داخل سجن القناطر، ولن يكون لديهم مانع في اعتقال منى والدكتورة ليلى وكل من يتشدد لهما، خصوصاً وهم يدركون حالة "الفرهدة" التي يعاني منها الجميع، قبل حتى أن يحل وباء كورونا بتداعياته الكئيبة التي استغلها النظام للمزيد من التنكيل بالمعتقلين وأهاليهم.

بالأمس، قرأت تدوينة كتبها زميل دراستي، بدا فيها في حالة استنفار وطني شامل، معلناً استعداده المؤكد للموت على جبهة ليبيا وجبهة إثيوبيا وجبهة سيناء في نفس الوقت، مناشداً الجميع أن يتوقفوا عن إثارة كل ما يشق الصف حتى نطمئن على ملفات النيل والحدود الغربية والإرهاب، فكتبت له تعليقاً أحييه فيه على دعوته الوطنية الكريمة، وأطلب منه أن يوجه نداءً إلى القائد الأعلى لعموم الجبهات، يناشده فيه التوقف عن ارتكاب الحماقات والمخازي التي لا تليق بمن يفترض به أن يحارب على أكثر من جبهة، ويذكره بدروس الماضي الأليمة التي صورت لأنظمة سابقة أن انتصارها على المعتقلين السياسيين سيكفل لها الدوام والنصر، لكن صديقي حذف تعليقي، ثم أرسل لي يقول إن حديثي الدائم عن القمع والحريات كلما جاءت سيرة أي موضوع، يعني أنني مفلس سياسياً، وأن علي أن أتغير لأواكب تطورات الواقع الخطيرة، فشكرته على النصيحة، وقلت له إني سأبدأ التغيير بعمل بلوك له، لكي لا أزعجه في المستقبل بأي حديث عن المعتقلين أو الحريات، متمنياً له النصر على جميع الجبهات، لأن حسم ملفات النيل وليبيا وسيناء، يبدأ كما تعودنا بالقضاء على آمال الأمهات في الاطمئنان على أبنائهن، "هو ده سِلو بلدنا".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.