02 نوفمبر 2024
سُبات المفكر الألمعي
للمفكر السوري جورج طرابيشي كتاب بعنوان "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام". وها أنا أستعير منه كلمة "سُبات"، لأُوجِّه إلى هذا المفكر التنويري الذي أفنى حياته في التأليف والترجمة التحيّة المشفوعة بالدعوة إلى الخروج من سباته الفرنسي. وجورج طرابيشي الذي حرث في حقولٍ معرفيةٍ شتى، صرف سني عمره وهو يترجم نصوصاً تأسيسية في النهضة والتقدم والحداثة والتنوير والديمقراطية. وعندما ظنّ أن الحقول أزهرت، وبدا كما لو أن القطاف قد حان، دهمته رياح الإرهاب والتكفير، فانزوى في أطراف باريس، وعلم أن ما يجري اليوم سيؤدي إلى استبداد الماعز بالمراعي الجميلة التي سقاها ببصر عينيه، ومداد عقله، وانتظر أن تنقف هذه الأرض رياحين وسنابل، لكنها أخلفت الوعد وأقحلت.
ليس جورج طرابيشي مجرد مفكر عابر في سماء الثقافة العربية، بل هو علامة وضّاءة في تاريخ الفكر العربي الحديث، فقد بلغ ما ترجمه نحو 230 كتاباً. ووصلت مؤلفاته إلى ما يناهز الثلاثين. وهو، إلى ذلك، بحّاثة من طرازٍ قلما عرفه الفكر العربي المعاصر؛ فقد أمضى ثماني سنين وهو "يفصفص" محمد عابد الجابري، ليضع كتابه "نقد نقد العقل العربي". وليس هذا الغوص الرهباني في المصادر نابعاً من الرغبة في المنازلة وتسديد النّبال، بل من حرقةِ العارف، فرفض التمييز بين مشرقٍ عرفاني ومغرب برهاني، كما قال الجابري، أو بين ابن رشد المغربي وابن سينا المشرقي، فهذه قطيعة مزعومة، لأن الجميع معاً موجودون في نطاق الوحدة العضوية للثقافة العربية.
... في هذه السنة، سنضيء له ستين شمعة، لأن ستين سنة مرّت على أول مقالة له في مجلة الآداب اللبنانية. وجورج طرابيشي المولود في حلب في عام 1939 بدأ الترجمة في سنة 1957، وأصدر أول كتاب له سنة 1964 بعنوان "سارتر والماركسية". ولم تمضِ ثلاث سنوات، حتى صدمه موقف سارتر من حرب 1967، فانهار مثاله للمثقف الثوري. ومثل معظم أبناء جيله، راح يتمايل في مواقفه، ليَعْبُر من القومية والوجودية إلى الماركسية، من دون أن يصبح شيوعياً. ولاحقاً، تجاوز القومية، وتخلّى بمقادير معيّنة عن الماركسية، وسار إلى آفاقٍ فكريةٍ أكثر رحابة، مع بقاء ثمالاتٍ قوميةٍ وماركسيةٍ في تفكيره الأصيل.
جاء جورج طرابيشي إلى بيروت في عام 1972، مترسّماً خُطى مَن سبقه من المتنوّرين السوريين، أمثال قسطنطين زريق وإدمون رباط وأدونيس وصادق جلال العظم، وكانت بيروت أخصب سني حياته في الترجمة. ثم غادرها إلى فرنسا سنة 1984. وهناك، انصرف إلى التأليف، فكانت فرنسا أخصب سني عمره في التأليف المعرفي. وجورج طرابيشي ليس محترف ترجمةٍ فحسب، بل مترجمٌ من طراز النهضويين الأوائل، وكان يردد: "إذا أردنا أن نلحق بالعصر على مستوى المعرفة النظرية، فيجب أن نترجم مئة ألف كتابٍ في فترة وجيزة". ولهذا، غيّرت ترجماته أفكار المثقف العربي أيّما تغيير. ففي زمن التحولات المتسارعة بعد هزيمة 1967، ترجم كتاب "البديل" لروجيه غارودي الذي غيّر فهمنا للاشتراكية، وترجم "موسى والتوحيد" لفرويد، فأطاح فهمنا التقليدي لمنشأ التوحيد. وغيّر كتابا "الإنسان ذو البعد الواحد" و"الماركسية السوفييتية" لماركيوز فهمنا للمجتمع الصناعي الغربي، ومجتمع رأسمالية الدولة السوفييتية.
لم يترك طرابيشي حقلاً لم يحرُث فيه، فنقل خلاصة الفكر الغربي الحديث إلى العربية، ثم أثرى الفكر العربي بسجالاته اللاهبة وآرائه الصادمة.
... التقيته في بيروت، قبل سنوات قليلة، فتباسطنا في الحديث، إلى أن سألته عمّا يفعل وعن مشروعه الفكري المقبل، فأجابني: ما عدتُ أريد إلا كأساً واحدة في المساء، لتنشيط شراييني، وإصبعاً من الخيار وهدأة غامرة. أيكون ذلك عصارة العمر؟ أم حكمة مَن قاتل بالقلم حتى الثمالة؟
ليس جورج طرابيشي مجرد مفكر عابر في سماء الثقافة العربية، بل هو علامة وضّاءة في تاريخ الفكر العربي الحديث، فقد بلغ ما ترجمه نحو 230 كتاباً. ووصلت مؤلفاته إلى ما يناهز الثلاثين. وهو، إلى ذلك، بحّاثة من طرازٍ قلما عرفه الفكر العربي المعاصر؛ فقد أمضى ثماني سنين وهو "يفصفص" محمد عابد الجابري، ليضع كتابه "نقد نقد العقل العربي". وليس هذا الغوص الرهباني في المصادر نابعاً من الرغبة في المنازلة وتسديد النّبال، بل من حرقةِ العارف، فرفض التمييز بين مشرقٍ عرفاني ومغرب برهاني، كما قال الجابري، أو بين ابن رشد المغربي وابن سينا المشرقي، فهذه قطيعة مزعومة، لأن الجميع معاً موجودون في نطاق الوحدة العضوية للثقافة العربية.
... في هذه السنة، سنضيء له ستين شمعة، لأن ستين سنة مرّت على أول مقالة له في مجلة الآداب اللبنانية. وجورج طرابيشي المولود في حلب في عام 1939 بدأ الترجمة في سنة 1957، وأصدر أول كتاب له سنة 1964 بعنوان "سارتر والماركسية". ولم تمضِ ثلاث سنوات، حتى صدمه موقف سارتر من حرب 1967، فانهار مثاله للمثقف الثوري. ومثل معظم أبناء جيله، راح يتمايل في مواقفه، ليَعْبُر من القومية والوجودية إلى الماركسية، من دون أن يصبح شيوعياً. ولاحقاً، تجاوز القومية، وتخلّى بمقادير معيّنة عن الماركسية، وسار إلى آفاقٍ فكريةٍ أكثر رحابة، مع بقاء ثمالاتٍ قوميةٍ وماركسيةٍ في تفكيره الأصيل.
جاء جورج طرابيشي إلى بيروت في عام 1972، مترسّماً خُطى مَن سبقه من المتنوّرين السوريين، أمثال قسطنطين زريق وإدمون رباط وأدونيس وصادق جلال العظم، وكانت بيروت أخصب سني حياته في الترجمة. ثم غادرها إلى فرنسا سنة 1984. وهناك، انصرف إلى التأليف، فكانت فرنسا أخصب سني عمره في التأليف المعرفي. وجورج طرابيشي ليس محترف ترجمةٍ فحسب، بل مترجمٌ من طراز النهضويين الأوائل، وكان يردد: "إذا أردنا أن نلحق بالعصر على مستوى المعرفة النظرية، فيجب أن نترجم مئة ألف كتابٍ في فترة وجيزة". ولهذا، غيّرت ترجماته أفكار المثقف العربي أيّما تغيير. ففي زمن التحولات المتسارعة بعد هزيمة 1967، ترجم كتاب "البديل" لروجيه غارودي الذي غيّر فهمنا للاشتراكية، وترجم "موسى والتوحيد" لفرويد، فأطاح فهمنا التقليدي لمنشأ التوحيد. وغيّر كتابا "الإنسان ذو البعد الواحد" و"الماركسية السوفييتية" لماركيوز فهمنا للمجتمع الصناعي الغربي، ومجتمع رأسمالية الدولة السوفييتية.
لم يترك طرابيشي حقلاً لم يحرُث فيه، فنقل خلاصة الفكر الغربي الحديث إلى العربية، ثم أثرى الفكر العربي بسجالاته اللاهبة وآرائه الصادمة.
... التقيته في بيروت، قبل سنوات قليلة، فتباسطنا في الحديث، إلى أن سألته عمّا يفعل وعن مشروعه الفكري المقبل، فأجابني: ما عدتُ أريد إلا كأساً واحدة في المساء، لتنشيط شراييني، وإصبعاً من الخيار وهدأة غامرة. أيكون ذلك عصارة العمر؟ أم حكمة مَن قاتل بالقلم حتى الثمالة؟