لطالَما حَلم الغزيّون المحاصرون بممارسة الطقوس السينمائيّة، كالجلوس على المقاعد الحمراء وتناول أكياس الفشار برفقة أصدقائهم أمام شاشة عرض كبيرة، شراء تذكرة لفيلم يرغبون بمشاهدته، ومناقشة أحداثه بعد الخروج من الصالة.
الأجيال الجديدة في غزّة بدت مُتحمسة لمعايشة التقاليد السينمائيّة؛ فهم اعتادوا مشاهدة الأفلام عبر اليوتيوب أو الأقراص المدمجة، وأحيانًا يضطرون لحضور عروض أفلام تنظّمها مؤسّسات المجتمع المدني بما يتناسب مع أهدافها.
وأخيرًا تحقّق لهذا الجيل أن يعيش تجربة حضور سينما حقيقيَّة لأوّل مرّة منذ ما يقارب ثلاثة عقود، من خلال فيلم "عشر سنين" الذي تمّ عرضه قبل عدّة أيّام في أقدم دور للسينما الغزية، "السامر"، التي نفضت غبارها وفتحت أبوابها أمام روّادها بعد ما أغلقت لثلاثين عامًا منذ اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987.
جُهِّزت سينما العرض بإمكانيات متواضعة؛ إلا أنها استقبلت قرابة ثلاثمائة شخص بين جدرانها المتشقّقة لحضور الفيلم، وهناك آخرون لم يكتفُوا بالمشاهدة خلالها، بل توجّهوا لمراكز ثقافية أخرى علَّ ذلك يلبي شغفهم السينمائي.
الفيلم أنتجته شركة "كونتينيو برودكشن فيلمز"، وصوّرت أحداثه محليَّا، بمشاركة 17 ممثلًا وممثلة، وحصل فريق العمل على تصريح من حكومة "حماس" في القطاع ليتمكّن من عرضه.
وتناول فيلم "عشر سنين" الحديث عن قضيّة الأسرى المعتقلين في السجون الإسرائيليَّة، وإبراز معاناتهم بقالب وطني درامي استمر عرضه لمدّة ساعتين وأكثر، وهو الأطول روائيًا على المستوى الفلسطيني، الأحداث سلطت الضوء أيضًا على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الفترة الممتدة منذ عام 1999 حتى 2009، ومن هنا جاءت تسمية الفيلم مستوحاة من الفترة التي تحدثت عن تلك الحقبة.
ولأن غزّة لا تملك سينما، أراد مخرج الفيلم علاء العالول، الذي جازف بالإنتاج، إلى إحيائها فتحدث قائلاً: "من حقنا في غزة امتلاك قاعة سينما، لأنها رسالة شعب، ورغم ما واجهنا مع الزملاء من تحديَّات، استطعنا إنتاج الفيلم محليًا". تعاون العالول مع رفقائه في الإنتاج الذي استمر لمدّة عشرة أشهر، ووصلت نفقات الفيلم إلى قرابة الـ100 ألف دولار.
يُضيف المخرج أنه بعدما انتهى من كتابة السيناريو، تواصل مع جهات خارج غزّة لإحضار المعدات السنيمائية اللازمة للتصوير ويفتقدونها داخليًّا، مشيرًا إلى أنّ اختيار الممثلين لم يكن سهلًا، وتم من خلال مسابقة "كاستينغ" أعدها فريق العمل ومختصّون فنيِّون.
ثمَّة ملاحظات لم يَخلُ منها العمل الفني، أهمّها قلة الكادر النسائي، وعلى استحياء ظهرت الممثلة آية سلطان في الفيلم، تاركة عملها في مجال العلاقات العامة والإعلام وانخرطت في العمل السينمائي في مواجهة الكاميرا لأوّل مرّة.
لعبت الممثلة آية، بطلة الفيلم، دور حياة، محامية وأم لطفلين، تُحاول أن تُدافع بقوّة وصلابة عن عائلتها أمام كل متناقضات المجتمع في الفترة الزمنية التي يُعالجها الفيلم، فيما يُحاول صُناع الفيلم التأكيد على حضور المرأة الفلسطينية ومشاركتها الفعالة في المجتمع بعيدًا عن سيطرة العنصر الذكوري البارز في الأعمال الفنيَّة سواء كانت دراميَّة، تراجيديا، كوميديا ساخرة.
استطاع الفيلم تلبية شغف الغزييّن تجاه العروض السينمائية، فهم لأول مرّة منذ زمن يذهبون لمتنفس جديد ينقلهم بعيدًا عن هموم وضجيج المدينة. تقول الفتاة ولاء الخز ندار، التي لم تَمل من مشاهدة الفيلم لما يزيد عن الساعتين متحمّلة درجة الحرارة المرتفعة في صالة العرض وضعف الإمكانيات: "لديَّ ميل كبير تجاه السينما؛ فمن بداية الإعلان عن الفيلم وأنا أترقّب مشاهدته ومُتشوِّقة لوجود دور سينما في غزة كباقي شعوب العالم".
وعن رأيِّها في الفيلم، أوضحت أن أحداثه كانت متسلسلة، وعايشت التفاصيل دون انتباه إلى أنّها أمام شاشة عرض كبيرة، كما أن المشاهد كانت مُؤثرة بشكل كبير. ورحبت الفتاة بإعادة إحياء السينما في القطاع، علَّ ذلك يغيِّر من الصورة النمطيَّة عن المدينة. ورغم أنَّ سعر التذكرة للشخص الواحد لحضور الفيلم وصلت إلى 20 شيكلا (5 دولارات) لم يمنع ذلك المواطنين من شرائها للاستمتاع بمشاهدة الفيلم.
استطاع فيلم "عشر سنين" أن يطفئ - ولو قليلًا - ظمأ الغزيين المتعطِّشين لوجود سينما بمدينتهم؛ عله يعيد ملامح باقي أماكن دور السينما التي باتت مهجورة، ومحاطة بالجدران السوداء المتهالكة، ولم يبقَ منها سوى عناوين الطرق.
عرفت فلسطين العروض السينمائيَّة منذ بداية القرن الماضي، حيث تشير الكتابات التاريخية إلى أن أول دار عرض سينمائي ظهرت في فلسطين هي "أوراكل" وذلك في مدينة القدس عام 1908، وفي عهد الانتداب البريطاني شهدت فلسطين زيادة ملحوظة في دور العرض السينمائية بالتزامن مع صدور القانون الخاص بالأشرطة السينمائية عام 1920.
وفي الثلاثينيات انتشرت في المدن الفلسطينية الرئيسة مجموعة من صالات السينما المجهّزة التي كانت تعرض الأفلام التجارية المصرية بشكل خاص على الجمهور، حيث عرضت أفلامًا عربية وأجنبية، ناطقة وصامتة.
ويعود تاريخ السينما في غزّة، إلى أربعينيات القرن الماضي، حيث تم إنشاء أوّل دار للسينما عرفت باسم سينما "سامر" عام 1944، فيما توالى افتتاح دور السينما بعدها في سبعينيات القرن الماضي، وكانت من أشهرها سينما "النصر" و"الجلاء" و"عامر" و"السلام" و"صابرين"، وكانت تُعرض فيها أفلام معظمها مصرية.
لكن طبيعة الأحداث التي مرّت على قطاع غزة منذ الثمانينيات، وخصوصًا انتفاضة 1987، كان لها بالغ الأثر في إغلاق دور السينما وعدم الاكتراث لوجودها حتى يومنا.
وفي حديثِ مع عاطف عسقول، المدير العام للفنون والتراث بوزارة الثقافة بغزة، أكد أنَّهم كجهة رسميَّة حاولوا التنسيق مع أصحاب دور السينما من أجل ترميمها وإعادة افتتاحها بعرض الفيلم داخلها.
وشجع المتحدّث بدوره فكرة إعادة الحياة لدور العرض السينمائيَّة بغزة، لأن الشعب بحاجة لمتنفس ثقافي، وأمل أن يتوسّع نطاق الإنتاج الفني مُدافعًا عن القضيَّة الفلسطينيَّة، موجهًا رسالة للعالم الخارجي من خلال الفن الوطني.
الفيلم فتح شهيِّة الغزيِّين بشكل متزايد على عروض سينمائيِّة حقيقيَّة بالقطاع، فبدأ حديثهم عن ضرورة وجود سينما تنقل لهم أعمال هوليوود والأفلام الحديثة داخل مدينتهم المحاصرة، فهم لا يستطيعون الخروج أو السفر بسب الإغلاق المتكرّر للمعابر.