سينمائيون فلسطينيون وهمّ تجاوز السائد والمألوف

28 يوليو 2015
+ الخط -
لا يمكن أن نختلف مع ميشيل خليفي الذي يحمل سينماه ويدور العالم كلّه في ما يخصّ "حكم القيمة" الذي يقول به حول عدم وجود سينما فلسطينية وإن كان هناك سينمائيون فلسطينيون يُشار إليهم بالبنان، وكذلك بشأن أنه بات ثمّة مشروع سينما فلسطينية هو في طور التكوين، وأن الدفع قدماً به قد يكون تجاوز ما يسميه "المرحلة الهلامية"، كما يذكر في الحوار معه في هذا العدد.
في الوقت عينه يجوز اعتبار أن هؤلاء السينمائيين يشكلون حركة سينمائية "فلسطينية" تحمل في ثناياها بعض ملامح الظاهرة الفنيّة أو تكاد.
وينبغي التنويه بأن القيمة الحقيقية لما أنتجته هذه الحركة حتىّ الآن، ليست مستمدّة فقط من الجوائز العالمية والترشيحات لهذه الجوائز التي تحظى بها أفلامها المتعدّدة خلال السنوات القليلة الفائتة، وهي عملية عادة ما تتدخّل فيها اعتبارات لا يمكن إدراجها جميعًا في عداد تلك الفنية الخالصة من الشوائب الملازمة، التي تؤدي إلى أن تحرم منها نتاجات مهمّة بقصد أن تصيبها في مقتل.
إن القيمة الحقيقية تكمن في أن هذا الإنتاج - كما تُرجم مثلاً في أفلام خليفي - مهموم بأن يتجاوز إلى حدّ ما، السائد والمألوف في حقل السينما العربية المعاصرة، وبأن يحلّق في فضاء المساءلة، ويجتهد كي يستأثر لنفسه بلغة فنيّة مخصوصة تخلّف أثرًا متميّزًا، لمسًا ورؤية.
بالتالي فإن أيّ زعم بـ"سياسية" هذه النجاحات يشكّل محاولة رعناء لاغتيال فنيتها ومشروعيتها.
يشكّل خليفي إذن، جزءًا من حركة سينمائية فلسطينية، تضمّ أيضًا مخرجين آخرين ذوي خصوصية، لا تنفك تتعاطى مع السينما لا باعتبارها رسالة فحسب وإنما أيضًا - ويمكن القول أساسًا - بصفتها لغة وفانتازيا وخيال، لأنه ليس في الطرف الأوّل ما يعوّض عن الطرف الثاني من المعادلة. والعكس صحيح.
وتفترض نجاحات هذه الحركة وقفة عند بعض العوامل التي يعتبر تآلفها بمثابة تزكية لهذا النجاح الذي لم يبلغه آخرون من السينمائيين العرب حتّى الآن، على رغم ما "تراكم" من تجارب سينمائية منذ أن بدأ تعامل الشعوب العربية مع "الفن السابع".
مهما تكن هذه العوامل، أرى وجوب التشديد على عامل غربة أو شتات معظم السينمائيين الذين يشكّلون النواة الصلبة لتلك الحركة، إذ إنه يحيل بدوره إلى عجز التربة المحلية، الوطنية، عن توفير الأرضية الخصبة لصناعة سينمائية تأخذ بيدها للمراهنة على الكون وعلى مخاطبة العالم.
ولئن كان هذا العامل يدخل في نطاق المعطيات الموضوعية، فإن ذلك لا يعني على نحو أوتوماتيكي أن تجاوز هذه المعطيات أو التخلّص من وطأتها عبر الانتقال إلى الشتات يقلّل من شأن العامل الذاتي في هذا النجاح، الذي يحيل بدوره إلى جوهر الإبداع الفردي الخاص لكلّ مخرج على حدة.
من نافل القول أن ملامسة هذا الإبداع لدى كلّ فنان فرد، بحاجة إلى أكثر مما تتسع له هذه الزاوية، بيد أن ذلك لا يمنع الإشارة إلى أن قاسمًا مشتركًا واحدًا على الأقل يجمع هذه الأفلام، وهو قاسم درء السقوط في "مناخ آسرٍ" للإنتاج السينمائي العالمي تهيمن عليه هوليوود وتوجّه خطاه. هذا المناخ الآسر ما يزال أكبر امتحان تتعرض له السينما في زماننا، حيث عليها الاختيار بين غوايته وبين الإبداع الفني كمشروع فرديّ وإنسانيّ.
يُضاف إلى ذلك، أن هؤلاء السينمائيين أخذوا على عاتقهم المساهمة في سيرورة نقل الفلسطيني من فضاء التجريد إلى أرض التحديد، لا بالمفهوم المباشر التنميطي، إنما بمفهوم إخراجه من صورة البطل المؤسطر إلى صورة الشخصية السينمائية التي تتحرّك ضمن حيّز من التاريخ الشخصي، السياسي والاجتماعي والنفساني، فضلاً عن التاريخ الجمعيّ.
بهذه المساهمة - وليس بها وحدها بطبيعة الحال - كانت تلك الحركة السينمائية بمثابة مشروع فنيّ بقدر ما إنها مشروع سياسي أيضاً.
ومع أن موضوع قدرتها على أن تحدث تحولاً في كينونة الفلسطيني ونظرته إلى ذاته يستلزم سياقاً آخر، إلا إن هذه القدرة على إحداث مثل هذا التحوّل بالنسبة للقضية الفلسطينية، غير منحصرة في الوقت الحالي في أصحاب القضية، بل تتجاوزهم إلى أرجاء العالم كله، مع ذروة "ثورة الصورة" التي أسفرت عن نتائج كثيرة، منها ازدياد نسبة بني البشر الذين في وسعهم أن يطلعوا من دون وسيط مهيمن على ما يدور في الكون كافة.
برسم ذلك، فهي تنطوي على دلالة إضافية تكمن أساسًا في إمكان زحزحة بعض المسلّمات المتعلقة بفلسطين وقضيتها في العالم، واحتمال إحلال مقاربات أخرى قد تكون مغايرة محلها. وهو نجاح يمكن البناء عليه في "جبهات فنيّة" أخرى.
المساهمون