سينما، سينما

16 يوليو 2015

عمر الشريف

+ الخط -
أربعة ممثلين مصريين، لم أستطع حتى الآن تجاوز تأثيرهم على روحي: عمر الشريف، نور الشريف، علي الشريف، ناهد شريف. أربعتهم ينتسبون لعائلة الشريف، في أسمائهم. وهذه مصادفة، لن أفكر فيها طويلا الآن، ليس لأنها لم تعد تهمني، بل لأنني أريد أن أهرب من تورطي المريض معها (قبل أربعين عاما، كانت هذه المعلومة زادي المخيالي الدسم، كنت أرسم قصصا وأخيط حيوات عن عائلة الشريف التي أنجبت أربعة فنانين دفعة واحدة، فناهد شقيقة نور وكلاهما أبناء أخ علي، أما عمر الشريف فهو عم ثالث لنور وناهد). وكنت في سري، وأحيانا في علني، أتمنى لو أن الله خلقني من هذه العائلة، لأصبح الفنان الخامس فيها. 
ترك هؤلاء الذين رحل ثلاثة منهم تأثيرا كبيراً علي. حيوات كثيرة عشتها مع أبطالي- آلهتي الأربعة، حيوات من دم وجمال وخوف وخيانات وأعصاب وبكاء وفرح، حيوات عميقة صدقتها تماماً، وعشت جزءا منها واقعياً فيما بعد، الأمر الذي شكّكني وشكك معلميّ وأهلي بإصابتي بانفصام في شخصيتي، وتصدع غريب في علاقاتي. في (صراع في الوادي) كنت صديق المهندس أحمد الذي ساعد الفلاحين، وفي (الذئاب لا تأكل اللحوم) كنت عشيق ناهد شريف السري، وفي (الإنسان يعيش مرة واحدة) كنت ابن علي الشريف الهارب من عدالة القبيلة، وفي (دائرة الانتقام) ساعدت نور الشريف في الانتقام من أصحابه الخونة.
غيّرت حياتي السينما المصرية، كانت مراهقتي عنيفة، المخيم محاصر بمنع التجوال، أغلب الأيام، والمدارس مقابر جاهزة بطبيعتها الأوامرية والعقابية، ورام الله ثمينة وبعيدة، كان الوصول إليها يكلفني طابوراً من الحجج والأسباب، لإقناع أبي، ووقتا يتخلله ركوع ودموع عند قدميّ أب كان يخاف عليّ من رام الله، البعيدة والثمينة والغريبة. كانت أفلام مصر نوافذنا للحلم والمتعة، بصدق الأداء وجماليات التصوير، كان الحب حباً، الغضب غضباً، والموت موتاً، والإغواء إغواء. كانت ناهد شريف في أفلامها مومساً حقيقية وعاشقة طبيعية. لم أكن أصدق أن نور الشريف لم يكن العاشق المتوتر الذي ينتظر حبيبته، وكنت أقرر( متخيلاً) أن المخرج التقطه من الشارع، وهو ينتظر فعلا حبيبته، وطلب منه تصويره في أثناء الانتظار في الشارع. وكان علي الشريف قمة في التطابق مع شخصياته العديدة التي يتقمصها، بصوته الخشن المتحشرج غالباً، وبعيونه الحولاء ووجهه القاسي. وكان عمر الشريف بهيئته الفتية وعضلاته المفتولة سببا كبيرا لي لأنسى، بل وأتجاهل، طلقات الجنود في ليل المخيم المحاصر.
توفي، قبل أيام، العم الثاني لنور وناهد (عمر الشريف). لحق بشقيقه علي، وابنة شقيقه ناهد. كيف سيتحمل نور كل هذا الغياب؟ أترون؟ ما زلت مريضا بالسينما. أربعون عاما من تصديق الكذبة الصادقة الرائعة، ما زلت لا أسمع طلقات الأعداء في الخارج ووقع بساطيرهم في الأزقة، ما زلت غير مكترث لمنع التجوال الذي يعلنه الآن (حسب ما يقول شقيقي)، بلغة ركيكة، جندي يظن أنه قادر على خطفي من دنياي التي اخترتها، ما زلت غائباً عن وعيي، هاذيا بالعائلة الخرافية وقصص الحب والموت والانتقام.
لم يعلق في روحي أحد من سينمائيي الزمن المعاصر في مصر، ذهبت السينما المصرية التي شدّتني من أذني وقلبي إلى زمن الذاكرة. وحين يهجم الحنين بقرونه التي من غابات وألم وعتمة، وهذا ما يحدث دوماً، أركض إلى (يوتيوب). أشعل فيلما قديما لأحد (شرفاء) زمني، وأشرع في الغياب عن كل شيء. ويبقى السؤال مشرعاً داخلي، مثل سفينة سادرة في عتمات مجهولها: لماذا لم يحدث، يوماً، أن كنت من هذه العائلة؟
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.