سيدي الكلب.. شكراً لك

04 مارس 2015
نشكر هذا الكلب المسكين على كشفه لزيف إنسانيتنا
+ الخط -

لا شك أن الفطرة الإنسانية تحتم علينا استنكار جريمة التعذيب لأي كائن حي، إنساناً كان أو حيواناً. ولا شك أيضاً أننا جميعا شاهدنا مقطع الفيديو المؤلم الذي تنهال فيه مجموعة من ذئاب البشر بسكاكينهم على كلب، الشهير بكلب الأهرام، حتى الموت. وكعادتنا كمصريين شعب عاطفته تسبق العقل والمنطق، انفجرت شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام بموضوع هذا الكلب المسكين، الذي دفع ثمن وفائه لصاحبه، وأصبح حديث الساعة، لدرجة تجعلك تظن أنه أحد أفراد العائلة الحاكمة، أو كأن بينهم صلة قرابة أو نسب!

ما كشفه هذا الحادث المؤلم هو الفجوة الرهيبة بين مفهومنا كمصريين، نخبة وشعبا، للإنسانية، وبين المفهوم الحقيقي النقي للإنسانية، تلك الفجوة كشفت عوراتنا جميعاً، سواء ممن تعاطفوا وتفاعلوا مع هذا الكلب، أو ممن سخروا من تعاطف المتعاطفين، بحجة أنه مجرد كلب.

وحتى أُوفي الكلب حقه، فهذا الكلب يستحق الاحترام لسببين: أولهما هو وفاء الكلب لصاحبه، ثم دفعه ثمن وفائه وغدر صاحبه الذي ضحى بكلبه ليدفع ثمن أفعاله البشرية الحمقاء واستحق عليها السجن. وكانت الصفقة هي أن يتم تسليم الكلب لخصومه الذين تجردوا من أقل سمات الإنسانية لكي يذبحوا الكلب مقابل أن يتم التصالح بينهم وبين صاحب الكلب، ومن ثَم إسقاط حكم السجن عنه. وللأسف تمت الصفقة، وغدر صاحب الكلب بالكلب الوفي.

السبب الثاني، والأهم، هو تعرية الكلب لنا لتنكشف عورتنا أمام أنفسنا، بعد أن سقطت ورقة التوت التي تسترها. تفاعل الناس مع حادث الكلب قد يبدو شيئاً عظيماً، لكنه في الحقيقة كارثة ومصيبة، لأن كل هذا لم يعدُ كونه مجرد ادعاء!

المنطق والعقل والإنسانية، كذلك الأديان جميعها تقريباً، توصي بالتعاطف مع الضعيف والمظلوم، واستنكار ورفض التعذيب والقتل العشوائي بغير ذنب، سواء كان المقتول إنساناً أو حيواناً أو حتى نباتاً. لكن ما حدث في مصر، هو عكس ما كان مفترض أن يحدث، فهؤلاء الناس أنفسهم الذين تباكوا على هذا الكلب المسكين، لم يخطر ببالهم التعاطف مع المئات الذين قتلوا في مذبحة فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس/آب 2013، في مذبحة دموية من أبشع المذابح في عصرنا الحديث، استخدمت فيها كافة الأسلحة، بداية من إطلاق الغاز والخرطوش والرصاص الحي على المتظاهرين بشكل عشوائي، وانتهاء بحرق الخيام بمن فيها من أحياء أو جثث. بل لم يتوقف الأمر عند القبول بهذه المذبحة في صمت، بل تبرع الكثير بتبرير الجريمة لإظهار المعتصمين بأنهم يستحقون القتل والحرق. ولا أعلم أي فعل يبيح استخدام القتل العشوائي وحرق الجثث!

ولم يخطر ببال مدّعي الإنسانية أيضاً التعاطف مع عشرات الشباب الذين يقتلون يومياً في المظاهرات، ويعذبون ويموتون في أقسام الشرطة، بل يغضون أبصارهم وأسماعهم عن تلك الجرائم لمجرد الاختلاف في التوجه. فمن مات إخوان، أو من أبناء التيار الإسلامي، وكأن هذا يبيح قتلهم بغير ذنب أو جريمة، وإنما كل جريمتهم قيامهم بما كفله لهم الدستور، وهو حق التظاهر والتعبير عن الرأي. بل المؤلم أكثر هو عدم التعاطف مع الأحياء من الناس الذين لم يستطيعوا دفع تكاليف علاج أمراضهم التي أصابتهم، بسبب فقرهم المدقع في دولة لا ترعى إلا فاسديها على حساب فقرائها. هؤلاء الموتى الأحياء لم تفكر فيهم الجماعة "بتوع الكلب". فليل نهار يعيشون في عذاب الفقر والمرض، وتُغلق في وجوههم المستشفيات، وإن فتحت أبوابها لهم فتكون لهم كالمقابر، بسبب الأوضاع غير الآدمية، فلا نظافة ولا علاج ولا حتى أسرّة يتألمون عليها.

أليس كل هذا يستدعي أن نشكر هذا الكلب المسكين على كشفه زيف إنسانيتنا وأكذوبتنا الكبرى بـ"أن الشعب المصري متدين بطبعه"؟! أي تدين وأي إنسانية تجعلنا نغض أبصارنا، ونغلق آذاننا عن آلاف الشباب الذين يموتون يومياً في المظاهرات وفي أقسام الشرطة بدون أي محاكمات؟ أي تدين وأي إنسانية هذه التي لا ترى آلاف الموتى الأحياء الذين يعانون ويلات وآلام الفقر والمرض دون أن يجدوا من يحنو عليهم ويتعاطف معهم؟ وأي رد فعل ننتظره من هؤلاء عندما يجدوا وسائل الإعلام تضج ليل نهار بقصة الكلب الذي مات ولم يجدوا أي اهتمام أو حديث عنهم؟ أبعد ذلك كله ننتظر منهم ولاء للوطن الذي يرعى ويحمي الفاسدين واللصوص ويقنن لهم فسادهم ومص دماء الفقراء؟ أليس هؤلاء وقودا حيا للتطرف، سواء كان تطرفا دينيا كغطاء للانتقام أو تطرفا في الإجرام، إضافة إلى فقدانهم أي إيمان بدين أو وطن؟

ختاماً.. كل الشكر لهذا الكلب الذي كشف عورتنا وزيف مشاعرنا، وآلاف اللعنات علينا وعلى إنسانيتنا المزيفة..

(مصر)

المساهمون