15 نوفمبر 2024
سياقات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة
لا يوجد ما يثبت، إسرائيلياً، أن اغتيال بهاء أبو العطا، القيادي في سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، أملته معطيات أمنية أو استخباراتية ضاغطة. هذا لا يعني أن أبو العطا لم يشكل هاجساً كبيراً للمنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، بل كان كذلك كأحد أبرز قادة السرايا. وتتهم إسرائيل أبو العطا بالوقوف وراء إطلاق الصواريخ على مناطق غلاف غزة، وهو مطلوبٌ لديها منذ سنوات، وحاولت تصفيته غير مرة. إلا أن المعطيات الميدانية، على الأقل في الأشهر الأخيرة، لم يستجد فيها ما يستدعي عملية اغتيال إسرائيلية بهذا الحجم، يمكن أن تؤدي إلى حربٍ واسعة، والدليل سيل التصريحات الإسرائيلية بعد عملية الاغتيال، بدءاً من رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إن "إسرائيل لا تريد التصعيد". وبالتالي، فإن زعم رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، نداف أرغمان، إن توقيت اغتيال أبو العطا، جاء "لأسبابٍ مهنية"، وكذلك زعم الناطق باسم جيش الاحتلال إن عملية الاغتيال جاءت بغرض "تفكيك قنبلة موقوتة"، هي محاولات للبحث عن ذرائع لتبرير الجريمة أكثر منها معطيات موضوعية.
يعضد ما سبق أمران: الأول، أن أبو العطا كان ضمن وفد من حركة الجهاد الإسلامي زار القاهرة، في شهر إبريل/ نيسان الماضي، وهو أحد أبرز الشخصيات العسكرية في القطاع التي يحاورها المصريون ضمن مساعيهم للحفاظ على الهدوء النسبي بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الصهيوني. الثاني، أن اغتيال أبو العطا تزامن مع غارة جوية إسرائيلية على دمشق، استهدفت منزل عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي، أكرم العجوري، أسفرت عن استشهاد نجله. بمعنى أن العملية ليست مرتبطة مباشرة بتهديد ميداني ضاغط، من وجهة النظر الإسرائيلية، بقدر ما أن لها سياقاتٍ أوسع استدعتها مخططاتها العدوانية.
وفي خلفيات الجريمة الإسرائيلية، يمكن رصد أربعة سياقات أساسية، وسياق خامس أعمّ يمثل
حجر الزاوية هنا. أما الأربعة فهي:
أولاً، جسّد أبو العطا أنموذج المقاوم الفلسطيني، القيادي والصلب، وإسرائيل تدرك قيمته وتأثيره منذ سنوات، ولذلك فإنها دائماً ما سعت إلى تحييده، غير أن هذا السبب وحده لا يكفي لتبرير التصعيد العدواني الإسرائيلي الأخير.
ثانيا، ينضاف إلى ما سبق أن إسرائيل تبحث، منذ عام 2014، عن استعادة المبادرة والردع في صراعها مع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. ويعطي قتل قائد بحجم أبو العطا دفقة معنوية كبيرة للدولة العبرية، إلا أن إسرائيل نفسها تدرك أن مثل تلك الدفقة قصيرة الأمد وخطيرة كذلك، فحركة الجهاد لا شك سترد، كما فعلت، وقد يخرج الأمر من سيناريو منضبط للأحداث ترجوه إسرائيل إلى معركةٍ مفتوحة، لا تتوخاها في المرحلة الحالية. وبالتالي، لا بد أن أسباباً أخرى عزّزت التوجه الإسرائيلي في المضي في اغتيال أبو العطا ومحاولة تصفية العجوري في دمشق.
ثالثاً، هذا يقودنا إلى السياق الثالث، وهو مرتبط بحساباتٍ شخصية وسياسية لنتنياهو، والذي فشل حزبه (الليكود) وحلفاؤه، هذا العام، في جولتين انتخابيتين للكنيست في ضمان أغلبيةٍ معتبرةٍ تمكّنه (أي نتنياهو) من تشكيل حكومة جديدة برئاسته. ولم تفلح كل محاولات نتنياهو تشكيل حكومة وحدة وطنية تداولية مع غريمه الجنرال، بيني غانتس، زعيم ائتلاف "أزرق - أبيض"، بسبب إصرار هذا الأخير على استبعاده من أي حكومة قادمة. وبالنسبة لنتنياهو، فإن قيام حكومة من غير حزبه، أو حتى تحالفية بين الليكود و"أزرق - أبيض"، من دونه، يعني كارثة شبه محققة، ذلك أنه يواجه تحقيقات خطيرة بالفساد قد تنتهي به في السجن، اللهم أن يجد طريقاً إلى تشكيل حكومة جديدة تؤهله إلى استصدار قانون خاص من الكنيست بمنحه حصانة قضائية. وبالتالي، لا يستبعد أبداً أن تكون ضمن حسابات نتنياهو محاولة استفزاز تصعيد عسكري على الجبهة الجنوبية مع قطاع غزة، لتعزيز حظوظ حكومة وحدة وطنية مع غانتس. وعلى وجاهة هذا الرأي وحضوره في الحسابات، إلا أنه غير كاف أيضاً، وهذا يقودنا إلى السياق الرابع.
رابعاً، وهو الأهم هنا، يأتي هذا التصعيد الإسرائيلي في سياق التصعيد الأوسع مع إيران، سواء بسبب ملفها النووي، أم جرّاء تعزيز نفوذها في سورية، على الحدود الشمالية الشرقية لفلسطين المحتلة، أم في لبنان على الحدود الشمالية. ولأن إسرائيل تفضل حرباً بالوكالة مع إيران، أو عبر ضربات مركزة ضد مصالحها في سورية، على الأقل في المرحلة الحالية، ولأنها تدرك أن فتح معركةٍ مع حزب الله في لبنان ستكون مكلفةً بالنسبة لها، فإنها قد تكون اختارت أن توجه رسالة إلى إيران عبر بوابة قطاع غزة، إذ أنه الحلقة الأضعف عسكرياً. ما يرجح ذلك أن الإعلام الإسرائيلي حفل في الأيام والأسابيع التي سبقت اغتيال أبو العطا بالحديث عن علاقاته بالجنرال الإيراني، قاسم سليماني، قائد قوة القدس التابعة للحرس الثوري، واعتباره رجل إيران الرئيس في القطاع. وينطبق الأمر نفسه على العجوري، والذي تتهمه إسرائيل بأنه المنسّق الرئيس بين الحرس الثوري وسرايا القدس.
ولعل ما عزّز الحسابات الإسرائيلية للتصعيد مع الجهاد الإسلامي أن "حماس" لا تريد تصعيداً عسكرياً، على الأقل آنياً، ذلك أنها مثقلةٌ بأرزاء إدارة قطاع غزة، وهي تأمل أن تتمكّن من
الوصول إلى اتفاق مع السلطة الفلسطينية في رام الله عبر بوابة الانتخابات التشريعية، تخفف وطأة القطاع وإدارته عنها. ولعل في حصر إسرائيل هجماتها خلال جولة التصعيد أخيرا في حركة الجهاد الإسلامي، على غير العادة، إذ كانت في الماضي تستهدف حركة حماس بذريعة أنها من يحكم قطاع غزة، محاولةً لإحداث شرخ بين التنظيمين. وهكذا وجدت "حماس" نفسها محرجة أمام الجريمة والتصعيد الإسرائيلي وبين محاولاتها تجنّب مواجهة عسكرية واسعة ومدمرة للقطاع وأهله. أيضاً، أخذت إسرائيل في اعتبارها العامل المصري، والذي يعمل كابحا على الحق الفلسطيني، لا الانتصار له، إذ لا يتدخل الوسيط المصري للتهدئة إلا بعد أن ترتكب إسرائيل جرائمها، وتحقق منها ما تريد. ولعل في أنباء التهدئة بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، والتي أُعْلِنَ عنها خلال كتابة هذا المقال (صباح الخميس)، بوساطةٍ مصريةٍ تؤكد ما جاء آنفا، ذلك أنها جاءت بعد سقوط أكثر من 32 شهيداً فلسطينياً وأكثر من 80 مصاباً. أما الموقف العربي الرسمي، فإن جزءاً منه مؤيد لإسرائيل، والآخر لا حول له ولا قوة.
يبقى سياق خامس لهذا العدوان، وهو الأساس والإطار الناظم، فإسرائيل لا تحتاج إلى اختلاق ذرائع لأي عدوانٍ تشنه، إذ وجودها بحد ذاته يمثل عدواناً على الشعب الفلسطيني والمنطقة، فضلاً عن أنها لا تستطيع أن تعيش وجوارها آمن هادئ. هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن لا ننساها أبداً، ولعل التذكرة تفيد هنا، فقطاع غزة، بسكانه الذين يبلغون مليوني نسمة، محاصرون منذ أكثر من اثني عشر عاماً. إنها الوحشية الإسرائيلية تسطّر حروفها بدماء الفلسطينيين والعرب.
وفي خلفيات الجريمة الإسرائيلية، يمكن رصد أربعة سياقات أساسية، وسياق خامس أعمّ يمثل
أولاً، جسّد أبو العطا أنموذج المقاوم الفلسطيني، القيادي والصلب، وإسرائيل تدرك قيمته وتأثيره منذ سنوات، ولذلك فإنها دائماً ما سعت إلى تحييده، غير أن هذا السبب وحده لا يكفي لتبرير التصعيد العدواني الإسرائيلي الأخير.
ثانيا، ينضاف إلى ما سبق أن إسرائيل تبحث، منذ عام 2014، عن استعادة المبادرة والردع في صراعها مع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. ويعطي قتل قائد بحجم أبو العطا دفقة معنوية كبيرة للدولة العبرية، إلا أن إسرائيل نفسها تدرك أن مثل تلك الدفقة قصيرة الأمد وخطيرة كذلك، فحركة الجهاد لا شك سترد، كما فعلت، وقد يخرج الأمر من سيناريو منضبط للأحداث ترجوه إسرائيل إلى معركةٍ مفتوحة، لا تتوخاها في المرحلة الحالية. وبالتالي، لا بد أن أسباباً أخرى عزّزت التوجه الإسرائيلي في المضي في اغتيال أبو العطا ومحاولة تصفية العجوري في دمشق.
ثالثاً، هذا يقودنا إلى السياق الثالث، وهو مرتبط بحساباتٍ شخصية وسياسية لنتنياهو، والذي فشل حزبه (الليكود) وحلفاؤه، هذا العام، في جولتين انتخابيتين للكنيست في ضمان أغلبيةٍ معتبرةٍ تمكّنه (أي نتنياهو) من تشكيل حكومة جديدة برئاسته. ولم تفلح كل محاولات نتنياهو تشكيل حكومة وحدة وطنية تداولية مع غريمه الجنرال، بيني غانتس، زعيم ائتلاف "أزرق - أبيض"، بسبب إصرار هذا الأخير على استبعاده من أي حكومة قادمة. وبالنسبة لنتنياهو، فإن قيام حكومة من غير حزبه، أو حتى تحالفية بين الليكود و"أزرق - أبيض"، من دونه، يعني كارثة شبه محققة، ذلك أنه يواجه تحقيقات خطيرة بالفساد قد تنتهي به في السجن، اللهم أن يجد طريقاً إلى تشكيل حكومة جديدة تؤهله إلى استصدار قانون خاص من الكنيست بمنحه حصانة قضائية. وبالتالي، لا يستبعد أبداً أن تكون ضمن حسابات نتنياهو محاولة استفزاز تصعيد عسكري على الجبهة الجنوبية مع قطاع غزة، لتعزيز حظوظ حكومة وحدة وطنية مع غانتس. وعلى وجاهة هذا الرأي وحضوره في الحسابات، إلا أنه غير كاف أيضاً، وهذا يقودنا إلى السياق الرابع.
رابعاً، وهو الأهم هنا، يأتي هذا التصعيد الإسرائيلي في سياق التصعيد الأوسع مع إيران، سواء بسبب ملفها النووي، أم جرّاء تعزيز نفوذها في سورية، على الحدود الشمالية الشرقية لفلسطين المحتلة، أم في لبنان على الحدود الشمالية. ولأن إسرائيل تفضل حرباً بالوكالة مع إيران، أو عبر ضربات مركزة ضد مصالحها في سورية، على الأقل في المرحلة الحالية، ولأنها تدرك أن فتح معركةٍ مع حزب الله في لبنان ستكون مكلفةً بالنسبة لها، فإنها قد تكون اختارت أن توجه رسالة إلى إيران عبر بوابة قطاع غزة، إذ أنه الحلقة الأضعف عسكرياً. ما يرجح ذلك أن الإعلام الإسرائيلي حفل في الأيام والأسابيع التي سبقت اغتيال أبو العطا بالحديث عن علاقاته بالجنرال الإيراني، قاسم سليماني، قائد قوة القدس التابعة للحرس الثوري، واعتباره رجل إيران الرئيس في القطاع. وينطبق الأمر نفسه على العجوري، والذي تتهمه إسرائيل بأنه المنسّق الرئيس بين الحرس الثوري وسرايا القدس.
ولعل ما عزّز الحسابات الإسرائيلية للتصعيد مع الجهاد الإسلامي أن "حماس" لا تريد تصعيداً عسكرياً، على الأقل آنياً، ذلك أنها مثقلةٌ بأرزاء إدارة قطاع غزة، وهي تأمل أن تتمكّن من
يبقى سياق خامس لهذا العدوان، وهو الأساس والإطار الناظم، فإسرائيل لا تحتاج إلى اختلاق ذرائع لأي عدوانٍ تشنه، إذ وجودها بحد ذاته يمثل عدواناً على الشعب الفلسطيني والمنطقة، فضلاً عن أنها لا تستطيع أن تعيش وجوارها آمن هادئ. هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن لا ننساها أبداً، ولعل التذكرة تفيد هنا، فقطاع غزة، بسكانه الذين يبلغون مليوني نسمة، محاصرون منذ أكثر من اثني عشر عاماً. إنها الوحشية الإسرائيلية تسطّر حروفها بدماء الفلسطينيين والعرب.