سياحة إسلامية: البحر كأرض نزاع ثقافي

08 اغسطس 2016
تجهيز "ملح ورمل" لـ نادية كعبي/ تونس
+ الخط -

في مرسيليا، أثار بداية الشهر خبر عن تنظيم نادي الألعاب المائية "سبيد واتر بارك" ليوم خاص بالنساء المحجبات جدلاً، بات يُعرف بقضية "البركيني" (نحت من لفظي برقع وبيكيني)، حيث أن الدعوة تقول إن النساء يجب أن يكنّ مرتديات إما البركيني أو الجلباب ويمنع دخول من يرتدين المايوهات العادية.

رأى بعضهم أن في الأمر اعتداء على علمانية فرنسا وتقاليد مجتمعها، ولكن ثمة من يرى بأنه ينبغي أن ننظر إليه كحدث عابر يشمله من جهة احترام حق المؤسسات (الخاصة على الأقل) في تحديد جمهورها من جهة، وحق حرية اللباس من جهة أخرى. إنها حادثة على بساطتها، تكشف تقاطع عالم الترفيه بالمنظومة الثقافية العامة ورموزها القيمية.

ليس الأمر خاصاً بفرنسا، ففي تونس يحدث أمر شبيه. لقد تَسبّبت العمليات الإرهابية التي تواترت في 2015 في غياب السواح الأوروبيين، وكسادٍ مخيف للمؤسسات السياحية، فنادقَ ونُزلاً، مَسابح ومنتزهاتٍ، بعد أن عَمرت طيلة العقود الأربعة الماضية بوفود الأجانب. كسادٌ جعل أصحابَ هذه المؤسسات يَتَوجهونَ إلى فئة زبائنِ الدَّاخل التونسي، لتعويض النقص الفادح في الإيرادات، وتنشيط هذا القطاع الحيوي، بل وإنْقاذه من موتٍ مُحقق.

ومع تكاثر عدد المرتادين من الزبائن التونسيين، بدأت تبرز "سِياحة إسلامية" والتسويق لها عبر الوسائط الاجتماعية، وهي ظاهرة يمكن تفسيرها بعاملَي البحث عن مخرجٍ عمليٍّ للأزمة (بإيجاد شريحة زبائن جديدة) وبين التجريب المجتمعي وجَس النبض. هكذا تخصّص فنادق كاملة للأسر الملتزمة دينيّاً وتهيئتها بما يتلاءم مع ضَوابط الشريعة الإسلامية، مثل: مَنع التعري، حَظر بيع المشروبات الكحولية وتعاطيها، تخصيص مسابح للمُحجَّبات والمنقبات وغيرها.

وأضاف القائمون على هذه المبادرة بَعضَ الكماليات الرمزية مثل: رفع الأذان في الفندق، تخصيص قاعة للصلاة، واقتراح أنشطة ومسابقات دينية للأطفال، مما يضفي على عملية الاستجمام الأسري طابعا دينيّاً واضحاً. يَحكم هذا التوجُّهَ المفهومُ الفقهي التقليدي القائم على استفراغ الجهد في مُطابقة الواقع للشريعة ومقولاتها، بإجراء الممارسة المجتمعية والفردية على نحوٍ يُطابقُ منظومةَ الأوامر والنواهي الفقهيَّة ولا يجافيها.

الملاحظ أنَّ مفهومَ "السياحة الإسلامية" لَم يَتبلور بَعد في أذهان القائمين عليه، وإنما يندرج أكثرَ في إطار التَّجريب والإدماج التدريجي لنظام العَلامات الديني في ثنايا هذا القطاع، الذي كان حكراً على الأجانب. كما أنَّه جرى تداول تَسمية "سياحة-حلال" (في فرنسا خصوصاً)، والتي تستدعي ضمناً مقابِلَه المفهومي: "سياحة-حَرام"، ما يشير إلى أن هذا التوجّه يظل محكوماً بِذهنية التحريم.

وكما هو متوقعٌ، أثارت المبادرة حفيظة العلمانيين في تونس، وشنوا عليها حملاتٍ تهويليَّة، فاعتبرت ضرباً لمقوّمٍ رئيسٍي من مقومات الاقتصاد التونسي، المنهار أصلاً، وجرى الحديث عن تقسيم "طائفي" لا يستقيمُ في المجتمع. لا ننسى هنا أن هذا الجدل يحدث في وقت أُجبرت فيه السياحة على أن تُعمّم اجتماعياً في الداخل بسبب أزمتها الخارجية ما يجعل هذا النقاش يمسّ كل المجتمع التونسي الذي بات يحتل الترفيه لديه مكانة أساسية.

يُقَدِّمُ القائمون على هذه التجربة، التي أجريت على ثلاثة فنادق في هذه الصائفة، السياحةَ الإسلاميةَ بديلاً عن وفود السواح القادمينَ من أوروبا، بِشقيْها الشرقي والغربي، كما أنها قد تُوفر نفس المداخيل فتُساهم في تنشيط عجلة الاقتصاد المنهارة، وتعدُّ إلى ذلكَ كله - وهذا الأهم عندهم - تجذيراً لهوية المجتمع العربية - الإسلامية، ورفضاً للنمط التحرري-الغربي الذي يسود فيه الانهمامُ بالجسد، وينفلت من عقال الرقابة.

فهي بمثابة الموقف الأخلاقي من رؤيةٍ للعالم، ومن مكانة الجسد فيه، ومن علاقاته بالسلطة ومن أنماط حضوره في الفَضاءين، الخاص والعام. فتَوصيف هذه السياحة بـ "إسلامي" يَكاد ينحصر معناه في ضرورة مراقبة الجسد، وإقصائه من دائرة العام لإرجاعه إلى منطقة الخصوص.

في عالم المفاهيم، السياحة لا دينَ لها، وليست هناك سياحة "إسلامية"، وأخرى كافرة، بل هناك سواحٌ لهم قناعات ذاتُ طابعٍ ديني، وآخرونَ لا يُحكِّمونَ الدينَ في ممارساتهم اليومية، وعلى قناعات هؤلاء أو أولئك يشتغل مروّجو المنتوج السياحي، كما يفعل كل مروّجي البضائع والخدمات الاستهلاكية، لذا فإن الوصف "إسلامي" يستعمل غالباً كَعلامة تجارية لكسب الزبائن.

الملاحظة الأخرى هي أن الحداثيين والإسلاميين في تونس وجدوا فَضاء آخر للتساجل والتجاذب، حَول طبيعة الفعل المجتمعي، وكيفية خلق المعنى بينَ مكوّنات الحياة اليومية وطريقة التحرك في أنحائها. وهو نفس النقاش الدائر حول أسلمة المجتمع التي أثيرت منذ ثلاثينيات القرن الماضي مع انبجاس الإسلام السياسي.

وسيبقى الحسمُ للسنوات القليلة المقبلة: فَإمَّا أن يتقبّل المجتمع التونسي هذه الظاهرة ويدمجها في نسيجه متسامحاً مع "أسلمة الفنادق"، تُخصّص كلياً لِأسر الإسلاميين، يمارسون الترفيه بِنَكهَة تنظيمية، أو أن تحتمي الدولة وأرباب هذه الصناعة بمقولات الأمن والعَلمنة وأولوية الاقتصاد، فتحظر هذه المظاهر. هكذا تُحوِّل المنطلقات الثقافية حتى البحر (الذي لا انتماء له) إلى مجال نزاع ربما يحتكره أحد الطرفين.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إقصاد متبادل 

منذ عقود قليلة فقط، تحوّلت السياحة الترفيهية إلى شأن جماعي معمّم، بفضل تطوّر تكنولوجيا النقل وانخفاض أسعارها وصعود سياسات تسويق معولمة للمنتوج السياحي. طوال عقود متلاحقة، انبنت منظومة سياحية عالمية حسب طلبات الزبون الغربي حتى تقولب كل مجال السياحة على هذا النمط، وبدا أنه يُقصي كل رؤية مختلفة. لكن، مع ظهور أنماط سياحية جديدة انفتح باب نقاش جديد، ففكرة "سياحة حلال" تبدو هي الأخرى إقصاء للآخر من الفضاءات التي تكون فيها.



المساهمون