من بين ضحايا انفجار بيروت، قتلى سوريون كثر، إلى جانب اللبنانيين وبقية القتلى. كذلك، فقد أصيب عدد منهم، وبقي البعض في عداد المفقودين، علماً أنّ هؤلاء قلّما يتحدث المسؤولون والإعلام عنهم
لم يشفع لهم اللجوء القسري إلى لبنان هرباً من الأحداث الدامية أو من سجون الاعتقال في سورية، ولم تكفهم مرارة الحرمان والفقر والإهمال، بل لحقتهم الكوارث، وإن بشكل آخر، فسقط من السوريين اللاجئين أو المقيمين في لبنان عشرات الضحايا، في انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من أغسطس/ آب الجاري، بالإضافة إلى المصابين والمفقودين. الجرح النازف الذي حمله السوريون اللاجئون إلى لبنان بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، ممن بحثوا عن سقفٍ آمنٍ لهم ولعائلاتهم، لم تندمل آثاره الأليمة، ولا سيّما بعدما ذاقوا معاناة المخيّمات والتهجير ولوعة استئجار المنازل والغلاء المعيشي، مروراً بصعوبة إيجاد فرصة عملٍ، والعجز عن تأمين رغيف الخبز، أو الموت عند أبواب المستشفيات، تماماً كما مواجهة النقص الحاد في المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى تمييز بحقهم حرمهم في كثير من الأحيان العيش بكرامةٍ وأمان، وهو تمييز يعود إلى ما قبل اللجوء الإنساني الذي سبّبه اشتعال الثورة، ويعود إلى عقود طويلة من توافد السوريين إلى لبنان بهدف البحث عن عمل. في تفاصيل الانفجار الأخير، كشفت السفارة السورية في لبنان، في حصيلة غير نهائية، أنّ "43 سورياً قضوا في انفجار مرفأ بيروت". وتقول المتحدثة باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، ليزا أبو خالد لـ"العربي الجديد" إنّ "عدد الوفيات المؤكّد هو 13 ضحية، في حين أنّ 69 لاجئاً ما زالوا في عداد المفقودين أو ممن لم نتمكّن من الوصول إليهم أو إلى أيٍّ من أقاربهم". وتكشف عن "إصابة 224 لاجئاً، من بينهم 52 إصابة خطيرة، لكنّ حصيلة الأعداد تتغيّر باستمرار ويومياً"، لافتةً إلى أنّ "استجابة المفوضية تشمل جميع الضحايا، لا السوريّين فقط، كذلك فإنّنا نركّز على مسألة الإيواء والحماية والدعم النفسي والاجتماعي لجميع العائلات المتضرّرة".
"وتين" شريان قلب والدها
يتحسّر اللاجئ السوري مؤيد الحميش على وفاة أخيه أيمن في أثناء مروره بالصدفة من أمام مرفأ بيروت، وهو الذي كان يعمل سائق توصيل (ديليفيري) في أحد مطاعم العاصمة. يقول لـ"العربي الجديد": "الكلّ مصدوم بالفاجعة، فقد عُرف أيمن بهدوئه ودماثة أخلاقه والتزامه الديني، ولم يؤذِ أحداً طوال حياته. لقد شاء القدر أن يستشهد أيمن يوم تاريخ ميلاده، وهو ابن السادسة والعشرين، وأن تلد زوجته ابنتهما بعد يومين على استشهاده، وبعد عامين من زواجهما".
يروي مؤيد لحظات الانفجار المرعبة، إذ تلقّى الخبر وهو في مدينة بعلبك (شرقيّ لبنان) لكونه يعيش هناك في أحد مخيّمات اللاجئين، قبل أن يهمّ بالنزول إلى بيروت بعد فشل محاولات الاتصال بشقيقه، ليجده قد فارق الحياة. ويضيف: "لجأ أيمن من قرية اسمها "سويدية كبيرة"، في ريف الرقة الغربي إلى لبنان منذ سبعة أعوامٍ، واستقرّ في مخيم برج البراجنة (في الضاحية الجنوبية لبيروت)، وهو الذي كان يدرس اختصاص الشريعة الإسلامية في سنته الثانية، قبل أن تجبره الأحداث في حلب على الهجرة والانقطاع عن الدراسة". يتأسّف كيف أنّ شقيقه "عاش غريباً ومات غريباً، وكيف عاد إلى وطنه محمّلاً على الأكتاف برفقة زوجته وابنة اليومين، التي حملت اسم وتين، وهو الاسم الذي طالما رغب فيه الشهيد". ولعلّ وتين، بما يجسّده اسمها من تعبيرٍ عن الشريان الرئيسي الذي يخرج من القلب لتغذية الجسم بالدم، تبقى الأمل الوحيد لوالدةٍ مفجوعةٍ، والذكرى الجميلة التي بقيت من أيمن لجدّيها وأقاربها.
فقدتُ جزءاً مني
"دفنتُ زوجتي وابنتيّ في لبنان، في الوقت الذي كنتُ أعتقد فيه أنّ عائلتي في أمانٍ بعيداً عن أحداث إدلب المتأزّمة"، يقول اللاجئ السوري أحمد مصطفى حاج صطيف، ويتابع: "شبح الموت كان يتربّص بنا، فأُزهقت أرواحهنّ جرّاء الانفجار الذي أطاح مكان إقامتنا في محلة الكرنتينا - المدوّر، الذي دُمّر بالكامل".
أحمد الذي فُجع بوفاة ثلاثة من أفراد عائلته بلحظةٍ واحدة، يسأل بحسرةٍ: "هل ما حصل حقيقة أم حلم؟ بلمحة بصرٍ فقدتُ جزءاً منّي، ولم يبقَ من عائلتي المؤلّفة من زوجتي وأربع بنات سوى ديما وديانا". يقول لـ"العربي الجديد": "كنتُ أعمل في حديقةٍ بعيدة قليلاً عن البيت لحظة وقوع الانفجار، وما إن فتحت عينيّ حتى أدركتُ هول الكارثة... الصراخ في كلّ مكان، سكان الحيّ يتحركون في كلّ مكان ويلهثون، علّهم ينجون، البعض يضع يده على عينه والثاني على قدمه... هرعتُ لإنقاذ شخصٍ كانت يده تنزف، قبل أن أركض إلى المنزل لآتي بالمساعدة للآخرين، وهناك كانت الصدمة. المنزل على الأرض، صراخ ابنتي الكبرى لطيفة يملأ المكان قبل أن تفارق الحياة مع شقيقتها الصغرى جود (13 عاماً). أمّا ديما التي وقع السقف عليها وهي إلى جانب والدتها، فكانت تصرخ: "بابا، بابا، دخيلك شيلني (أنقذني من تحت الركام). ومن جهتها، أصيبت ديانا التي ما زالت ترقد في المستشفى، بإصاباتٍ بالغة في قدميها".
جرح واحد وألم واحد
محمد عسّاف، خرّيج اختصاص الصحافة والإعلام، والأول على دفعته في حينها، اضطرته الأحداث السورية إلى مغادرة مدينته دمشق باتجاه لبنان عام 2014، بعد تحرّره من اعتقالٍ دام مدّة شهرين في سجون النظام السوري، وما زال يخضع بسبب الاعتقال لعلاجٍ من الصدمات النفسية. وإذ يسرد لـ"العربي الجديد" كيف ظنّ أنّه قد وجد طوق النجاة بلجوئه وعائلته المؤلّفة من زوجةٍ وابنتين ومن أولاد أخيه الثلاثة الذين خسروا والدهم في حادث سير، إلى لبنان، يقول: "ابنتي الصغيرة أُصيبت بالذعر، ومنذ أيامٍ تعاني من تساقط شعرها بكمياتٍ كبيرة، وقد أكّد لنا الطبيب أنّ السبب هو الصدمة. أمّا البيت الذي أسكن فيه في محلة الأشرفية، والذي لم أتمكّن من دفع إيجاره منذ 6 أشهر، فقد تضرّرت أبوابه ونوافذه، وأُصيبت جارتنا بنزفٍ داخلي". محمد الذي يعيل خمسة أولاد بمفرده، يعمل منذ مجيئه إلى لبنان في مجال الحدادة الإفرنجية، وهو الذي ترك إحدى الشركات بعد امتناعها عن دفع مستحقاته، ما دفعه إلى العمل لحسابه، وبالتالي إلى اقتصار ذلك على أيامٍ معدودة في الشهر نتيجة الأزمة الاقتصادية. وإذ ينتقد "التقصير المتعمّد تجاه الضحايا السوريين"، يقول: "يبدو أنّ دم السوري لا قيمة له ولا اعتبار أينما كان، سواء في ظروف حربٍ أو سلمٍ". ويسأل: "ما ذنب الأبرياء الذين فقدناهم، سواء من الجنسية السورية أو غيرها؟ ولماذا يستمر تمييز البعض تجاهنا، حيث كانت أولويّتهم إنقاذ اللبنانيين وإسعافهم ومعالجتهم، علماً أنّ العديد من السوريّين بادروا إلى إنقاذ اللبنانيّين وغيرهم، فالجرح واحد والألم واحد والإنسانية لا تعرف ديناً أو جنسية".
مساعدات بحسب الجنسية
وكان عدد كبير من اللاجئين السوريين قد قدموا من مختلف المناطق اللبنانية للتطوّع في أعمال الكنس والجمع والتنظيف وإزالة الركام وآثار الدمار من شوارع العاصمة وأحيائها الأكثر تضرراً، ولا سيما الكرنتينا والجميزة ومحيطهما. كذلك، نشطت مجموعة من الجمعيات الأهلية والمنظمات، من بينها مركز "وصول" في مجال توثيق أسماء الضحايا والمفقودين السوريين "كي لا يبقوا مجرّد أرقام"، وفق ما نشره.
ويتولّى "المركز اللبناني لحقوق الإنسان" رصد الانتهاكات الأساسية لحقوق الإنسان وتوثيقها ورفعها إلى منظمات عدّة محلية ودولية. وفي اتصالٍ مع "العربي الجديد"، توضح مسؤولة الإعلام والتواصل في المركز، كريستين مهنا، أنّهم يعملون حالياً على خطة الاستجابة السريعة وطويلة الأمد "لتوفير احتياجات ضحايا الانفجار من دون أيّ تمييز، إذ يتولى المركز مع فريقٍ من المتطوّعين إنجاز مسحٍ وتقييمٍ للحاجات، وذلك بالتعاون مع منظمات أخرى ضمن منتدى المنظمات الإنسانية والتنموية غير الحكومية في لبنان (LHDF). سيقدّم المركز كذلك المعونة والاستشارة القانونية للمتضرّرين، كما خدمات إعادة تأهيل أكثر شمولية للناجين وعائلات الضحايا". تضيف: "وردتنا تقارير تفيد بأنّ بعض المنظمات توزّع المساعدات بطريقة استنسابية بحسب الجنسية، وتحرم الأجانب الذين لا يملكون أوراقاً ثبوتية الحصول على المساعدات، حتّى إنّ التمييز طاول الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمع الميم (المثليات، والمثليون، ومزدوجو الميل الجنسي، والمتحولون جنسياً) والأشخاص ذوي الإعاقة".