وعقدت ما يُسمّى بـ"الإدارة الذاتية"، التي تنشط في المناطق التي تسيطر عليها "قسد"، يوم الجمعة الماضي، اجتماعاً ضم العديد من الشخصيات العشائرية الموالية لها في منطقة شرقي نهر الفرات، تحت شعار "العشائر السورية تحمي المجتمع السوري وتصون عقده الاجتماعي". وأصدر المجتمعون، في بلدة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي، بياناً يدعم "العملية السياسية والعسكرية" التي تقودها "قوات سورية الديمقراطية"، التي تشكل "وحدات حماية الشعب" الكردية عمودها الفقري، وتعتبر بمثابة ذراع برية للتحالف الدولي بقيادة واشنطن. ومن الواضح أن هذه القوات تحاول الحصول على شرعية شعبية في منطقة شرقي الفرات من خلال حشد تأييد عشائري في شمال شرقي سورية، الذي ينتمي جل سكانه إلى عشائر عربية عريقة. كما تحاول هذه القوات تبرير بقائها عقب القضاء على تنظيم "داعش"، إذ أشار البيان إلى أن "خطر الإرهاب ما زال محدقاً بالجميع طالما أن الخلايا النائمة موجودة، وما زالت بنيته الثقافية مؤثرة في المناطق التي كان داعش يحتلها". كما يأتي الاجتماع في سياق محاولات أحزاب كردية، في مقدمتها حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يتخذ من الوحدات الكردية ذراعاً عسكرية له، فرض رؤيتها لمصير منطقة شرقي الفرات، إذ أكد المجتمعون "العزم على تأسيس سورية تتسع لجميع أبنائها، ومن مختلف فسيفسائها في ظل دولة لامركزية ونظام سياسي مستقر ديمقراطي، والتأكيد على دستور سوري ديمقراطي توافقي يمثل جميع القوى والفعاليات المجتمعية السورية"، وفق البيان.
وفي الوقت الذي كان فيه "شيوخ الديمقراطي" (تسمية محلية لشيوخ العشائر الموالين إلى "قسد") يعقدون اجتماعهم في بلدة عين عيسى، دفع النظام السوري بالشيوخ الموالين له إلى عقد اجتماع مماثل في ريف الحسكة أقصى شمال شرقي سورية لـ"رفض مشاريع الانفصال والتقسيم التي يروج لها أعوان المحتل الأميركي"، وفق بيان صدر عن الاجتماع، دعا "من انخرطوا في الصف الآخر ويقودهم الاحتلال الأميركي للعودة إلى حضن الوطن والانضمام للجيش العربي السوري". كما دعا "شيوخ النظام" العشائر إلى "الانخراط في المقاومة الشعبية ضد المحتلين، وعلى رأسهم الأميركي والتركي، وتحرير الجولان وإسكندرون". كما اعتبر أن كل من يشارك في مؤتمر أو ملتقى تحت راية غير راية النظام السوري "خائن وعميل"، وفق البيان. كما شن النظام هجوماً على المشاركين في مؤتمر "قسد" ووصفهم بـ"الخونة". ونقلت وكالة "سانا" التابعة للنظام عن "مصدر مسؤول في وزارة الخارجية" قوله إن "المؤتمر الذي عقد في منطقة تسيطر عليها مليشيات مسلحة تابعة للولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى مني بالفشل بعد مقاطعة معظم العشائر العربية الأصيلة له". ووصف المؤتمر بأنه "التقاء العمالة والخيانة والارتهان". وأضاف أن "مثل هذه التجمعات تجسّد بشكل لا يقبل الشك خيانة منظميها، مهما حملوا من انتماءات سياسية أو إثنية أو عرقية".
ويشكل العرب غالبية سكان منطقة شرقي الفرات، وهم ينتمون إلى قبائل عربية عريقة تتفرع إلى عشرات العشائر التي تنتشر على طول نهر الفرات وفي الجزيرة السورية. وتشكل قبائل شمّر، والجبور، وطي، والبقارة، والعقيدات، والعدوان، والبوشعبان، والبوبنّا، وبني صخر (الخريشة)، وعنزة، أبرز قبائل شمال سورية وشرقها، إذ تضم كل قبيلة عشرات العشائر الكبيرة والمتوسطة والصغيرة في محافظات الرقة والحسكة ودير الزور في شرقي الفرات، إضافة إلى جزء كبير من أرياف حلب وحماة وحمص في غربه. ولم يتوقف الاهتمام بالقبائل والعشائر السورية العربية وغير العربية عند حدود النظام والجانب الكردي السوري، إذ دفعت الحكومة التركية لظهور "المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية"، في محاولة واضحة لاستمالتها في سياق حشد التأييد الشعبي لعملية عسكرية تستهدف القضاء على "الوحدات" الكردية ومن يواليها من فصائل مقاتلة. وانبثق المجلس من اجتماع كبير عقد أواخر العام الماضي في مدينة إعزاز شمال سورية، ضم ممثلين عن 125 قبيلة وعشيرة سورية، بما في ذلك العشائر العربية والتركمانية والكردية والسريانية والدرزية والعلوية والإسماعيلية وغيرها. ويدعم هذا المجلس الوليد السياسة التركية في شمال سورية، ويطالب بالحفاظ على وحدة البلاد أرضاً وشعباً، ورفض أي طرح يؤدي إلى تقسيمها. كما يدعو إلى بناء جيش وطني قوي وموحد على أسس غير طائفية.
وأعرب المتحدث باسم المجلس مضر الأسعد عن اعتقاده بأن تسابق أطراف الصراع في سورية لنيل تأييد القبائل والعشائر في شرق الفرات مرده إلى عدة أسباب، منها "أن سمعة القبائل والعشائر العربية لم تتلطخ بالإرهاب"، إضافة الى كونها أكبر حاضن اجتماعي يضم آلاف الشباب القادرين على حمل السلاح. وأشار، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "أغلب موارد البلاد البترولية والزراعية موجودة في المنطقة التي تنتشر فيها القبائل والعشائر، وهذا سبب رئيسي لتودد جميع أطراف الصراع لهذه القبائل". وأعرب عن قناعته بأن "عدم ظهور تيارات سياسية فاعلة وشخصيات لها تأثير حقيقي في الشارع السوري المعارض، دفع بالقبيلة إلى واجهة المشهد، لتقوم بدور سياسي واقتصادي"، مضيفاً أنه "في ظل الفوضى الأمنية والعسكرية عادت القبيلة لتلعب دور الحامي لأبنائها". وقلل الأسعد من أهمية الاجتماع العشائري الذي عقدته "قوات سورية الديمقراطية" يوم الجمعة الماضي، موضحاً أن أغلب الموجودين من الصفوف الخلفية للمشيخات الموجودة في منطقة شرقي الفرات، معتبراً أن عدداً كبيراً من شيوخ القبائل والعشائر المعترف بمشيختهم هم إما خارج سورية منذ سنوات، أو لم يحضروا الاجتماع لأسباب متعددة. واعتبر الأسعد أن "قسد غطاء لحزب العمال الكردستاني في سورية"، لافتاً إلى أن هذا الحزب يبحث عن غطاء شعبي في البلاد ولهذا يحاول استمالة القبائل والعشائر. وقال الأسعد: "دفع هذا الحزب آلاف الشباب المنتمي إلى القبائل إلى الصفوف الأمامية أثناء الحرب مع تنظيم داعش، ما أدى إلى مقتل الآلاف منهم، في سياق محاولة هذا الحزب تفريغ المنطقة من الكوادر العربية الشابة لفرض الهيمنة الكاملة عليها". وأوضح أن "هناك ما يزيد على مليوني شخص في شرقي الفرات وغربه من أبناء القبائل رفضوا الخنوع للنظام ومليشياته أو لقسد، وهم اليوم إما نازحون داخل سورية، أو مهجرون خارجها".
وطرأ تطور كبير في البنية العشائرية الفكرية في سورية منذ بداية الألفية الجديدة، إذ وجد الجيل الجديد أن القيم القبلية القديمة لم تعد تناسب نمط تفكيره، وهو ما أفقد "الشيخ" المكانة التوجيهية والاجتماعية التي كان يحظى بها سابقاً، فتحولت المشيخة إلى مجرد واجهة اجتماعية تتدخل أحياناً لفض نزاعات فردية بين أبناء القبيلة الواحدة، أو مع قبيلة أخرى. من جانبه، رأى الكاتب والباحث السياسي مناف الحمد، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "في ظل التشظي وتمزيق النسيج الاجتماعي السوري، عاد كثيرون إلى مرحلة ما قبل البنى الوطنية، أي إلى ثقافة القبيلة والعشيرة، في ظل غياب تام للحياة الحزبية والحالة المدنية". وأشار إلى "أن نظام (بشار) الأسد حطّم القيم الأصيلة للقبيلة في سورية واستثمر فيها بشكل بشع من خلال ربطها بالأجهزة الأمنية"، مستدركاً: "لكن حصول عدد كبير من أبناء القبائل على شهادات علمية عالية، وخروجهم للعمل خارج البلاد، خصوصاً في بلدان الخليج، أدى إلى نقلة نوعية في الوعي لجهة العلاقة مع القبيلة والنظام والوطن بسبب شعور هؤلاء بالفجوة الحضارية الكبيرة ما بين سورية وهذه البلدان". وأوضح أنه "حدث شرخ كبير في بنية القبيلة في سورية ما بين قسم حافظ على ولائه للنظام، وآخر ناقم عليه". ولفت الحمد إلى أنه "تكرس استقطاب حاد بعد اندلاع الثورة، إذ تضاعف الولاء لدى القسم الأول، وازدادت النقمة لدى القسم الثاني، وما بينهما هناك حياديون استثمر الطرفان فيهم". وتابع الحمد أن "الأطراف الثلاثة قابلة للاستثمار، فالمعارض يمكن أن يصبح حليفاً لجهة تناصب النظام العداء، والموالي بطبيعة الحال تابع للنظام، ولكن هذين الطرفين لا يمكن أن يوضعا في درجة واحدة على السلم القيمي، لان التحالف بين معارضة النظام، وجهات معينة، تفرضه ظروف المواجهة مع نظام قاتل مستبد، بينما لا تعدو التبعية للنظام وصف الانتهازية والخنوع والسكوت على الظلم. أما الطرف الثالث فهو يقدم ولاءه لمن يخدم مصلحته أكثر".