ومن المفترض أن يزور المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسن، العاصمة دمشق بعد غد الأربعاء، من أجل وضع اللمسات الأخيرة على تشكيلة اللجنة الدستورية، التي تأمل الأمم المتحدة أن تكون خطوة واسعة باتجاه الحلّ السياسي.
وخلال زيارة له للعاصمة الروسية موسكو قبل أيام، وصف بيدرسن اللجنة الدستورية بأنها "باب للتسوية في سورية وإنهاء النزاع"، مشيراً إلى أنّ "بدء عمل اللجنة يعتمد على تحقيق بعض العوامل المهمة، مثل إطلاق سراح السجناء السياسيين من قبل النظام". وأكد بيدرسون أنّ الأطراف المعنية اقتربت من تشكيل اللجنة الدستورية، مضيفاً أنّ "أساس التعاون هو التمسّك بالقرار الأممي 2254، واستبعاد التوجّه للحسم العسكري على الأرض".
من جهتها، أكدت وسائل إعلام روسية أنّ عقدة تمثيل المجتمع المدني في اللجنة الدستورية "حُلّت"، مشيرةً إلى أنّ النظام السوري وافق على طرح روسي يقضي بأن يقدّم النظام أسماء أربعة مرشحين من المجتمع المدني، وأن تقدم الأمم المتحدة اسمين، في مسعى لتسوية الخلاف على أسماء ستة أشخاص في لائحة المجتمع المدني المقترحة، اتخذ منها النظام ذريعة لعرقلة تشكيل اللجنة على مدى أكثر من عام.
ولكنّ هذه الوسائل أشارت إلى أنّ النظام اشترط اتخاذ قرارات اللجنة الدستورية بأغلبية 75 في المائة من الأصوات، في مسعى واضح لتعطيل عمل اللجنة كي لا يرى النور دستور يمكن أن يكون مدخلاً واسعاً لتحييد النظام في التسوية السياسية.
ويُفترض أن تتألّف اللجنة الدستورية من 150 عضواً، ثلثهم من المعارضة التي تمثّلها "الهيئة العليا للتفاوض" التي تضم أغلب تيارات المعارضة السورية، وثلث آخر من النظام السوري، والثلث الأخير ممن يختارهم بيدرسون من المجتمع المدني السوري في الشارع المعارض والموالي، على أن يتم اختيار 15 عضواً من المجموعات الثلاث، لصياغة دستور دائم للبلاد.
وتعدّ المسألة الدستورية من سلال التفاوض التي أقرّتها الأمم المتحدة، بناءً على موافقة النظام والمعارضة في الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف في مارس/ آذار من عام 2017. وقد جاءت في المرتبة الثانية بعد سلّة "القضايا الخاصة بإنشاء حكم غير طائفي يضم الجميع"، وهو ما تعتبره المعارضة تعبيراً عن الانتقال السياسي الذي أقرّه القرار الأممي 2254، الذي صدر عن مجلس الأمن يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول عام 2015 بالإجماع، ونصّ على بدء محادثات السلام في سورية. وعقدت بعد ذلك جولات تفاوض عدة، إلا أنّها فشلت في البدء بمباحثات جادّة بسبب تعنّت النظام وإصراره على الحسم العسكري.
أمّا مبدأ اللجنة الدستورية، فهو نتاج مؤتمر "سوتشي" أو ما سمي "مؤتمر الحوار الوطني السوري" الذي انعقد مطلع عام 2018 بمدينة سوتشي الروسية، بحضور وفد موسّع مثّل النظام والموالين له، وبعض قادة المعارضة المتباينة المواقف.
وحاول الروس منذ ذلك التاريخ تحويل المسألة الدستورية إلى مطيّة، للوصول إلى حلّ سياسي يرسّخ نفوذهم في شرقي المتوسط. وعندما شعروا أنّ هناك بوادر تخلّ أميركي عن مبدأ اللجنة الدستورية، سارعوا إلى تمهيد الطريق أمام تشكيلها. وحاولت موسكو فرض مشروع دستور كتبه خبراء روس، سُرّبت موادّه إلى وسائل الإعلام عام 2017 خلال جولات مسار أستانة، إلا أنه لقي رفضاً كبيراً من قبل المعارضة السورية التي اعتبرت المحاولة الروسية "تصرّف محتل"، كما أنّ النظام لم يبد ترحيباً به.
وتدرّج موقف النظام من المسألة الدستورية من الرفض المطلق للمبدأ برمته، بحجة أنّ هذا الأمر "سيادي"، إلى القبول بشروط، ثمّ إلى خضوع متوقّع بسبب الضغط الروسي عليه من أجل تسهيل مهامّ الأمم المتحدة على هذا الصعيد. وكان النظام يدعي أنّ الدستور الذي وضعه عام 2012 تحت ضغط الثورة السورية يعتبر من أفضل الدساتير في العالم، رافضاً تغيير أي مادّة فيه.
واضطر النظام إلى حذف مادة مشهورة في الدستور الذي وضعه حافظ الأسد في سبعينيات القرن الماضي، التي تنصّ على قيادة "حزب البعث" للمجتمع والدولة. ولكنّ الواقع يؤكد أنّ هذا الحزب لا يزال حتى اللحظة واجهة النظام، التي تحكم سورية من خلال ما يُعرف بـ"القيادة القطرية" للحزب.
كما لا يزال أغلب أعضاء ما يسمى "مجلس الشعب" ينتمون إلى "حزب البعث العربي الاشتراكي"، الذي يعدّ الحزب الأكبر والأكثر نفوذاً في سورية منذ عام 1963، تاريخ استيلاء مجموعة من الضباط الطائفيين على السلطة.
وعرض النظام إجراء تعديل على بعض موادّ دستور عام 2012، لكن المعارضة السورية رفضت هذا المبدأ، إذ إنها تعتبر هذا الدستور مفصلاً على مقاس رئيس النظام بشار الأسد، بحيث حوّل الجيش والأجهزة الأمنية إلى أدوات قمع بيد رئيس الجمهورية، في ظلّ غياب أي صلاحية للحكومة والبرلمان.
ويبدو أنّ النظام رضخ أخيراً ووافق على الشروع في عمل جادّ لوضع دستور جديد للبلاد، ولكن من المتوقع أن يؤدي الأعضاء التابعون له في اللجنة الدستورية دوراً معطلاً وسلبياً، في حال لم يكن الدستور على مزاج من يمثلونه، وخصوصاً لجهة السماح لبشار الأسد بالترشّح مرة أخرى للرئاسة، إذ تنتهي ولايته الأولى لسبع سنوات وفق دستور عام 2012 في عام 2021.
الحال نفسه ينطبق على المعارضة السورية التي تطور موقفها من الدستور، وفق للحراك السياسي الإقليمي والدولي. فقد كانت في البداية تطالب بدستور عام 1950 ناظماً للمرحلة الانتقالية، إذ تعتبره دستوراً مثالياً نال موافقة أغلب السوريين في حينه. ومن ثمّ طالبت بمبادئ دستورية تحكم المرحلة الانتقالية، حتى يتم تشكيل جمعية عمومية تضع دستوراً تجري على أساسه انتخابات في البلاد. ثمّ عادت ووافقت على مبدأ المسألة الدستورية، على أن يتمّ التفاوض حولها بعد إنجاز التفاوض على الانتقال السياسي الذي تعتبره المعارضة السورية جوهر وأساس العملية السياسية.
ورفضت المعارضة في البداية مبدأ اللجنة الدستورية، الذي نتج عن مؤتمر "سوتشي"، وتقديم مسألة الدستور على مسألة الانتقال السياسي، ولكنها تعرضت لاحقاً لضغوط كبيرة للقبول بالتفاوض حول الدستور قبل الانتقال السياسي، مشترطةً التزامن بالتفاوض حول الحكم والدستور.
وتطالب المعارضة بطرح مشروع الدستور لاستفتاء عام يشارك فيه ملايين السوريين اللاجئين في بلدان أوروبية ودول الجوار السوري، قبل إقراره من قبل مجلس الأمن الدولي، وتعتبر أنّ الدستور الأساس الذي يمكن البناء عليه لدولة ديمقراطية تعددية لا يتحكّم بها فرد أو حزب أو طائفة، هو الذي يضمن حقوق جميع السوريين بغضّ النظر عن مشاربهم السياسية والعرقية والمذهبية والدينية. وتميل المعارضة السورية إلى نظام برلماني أو "شبه رئاسي"، للقضاء على الديكتاتورية المتجذرة في البلاد منذ عام 1963، ويكرسها الدستور الحالي.
ومن المتوقع أن تشهد أعمال اللجنة الدستورية في حال التئامها، اشتباكات سياسية لا تقلّ ضراوة عن الاشتباكات العسكرية الدائرة في البلاد منذ نحو 8 سنوات، إذ سيحاول كل طرف الحصول على مكاسب لم يستطع الحصول عليها بالبندقية.
كما أنّ مسألة تمثيل الكرد السوريين في اللجنة الدستورية لا تزال محلّ جدل كبير، إذ يبحث المجلس السياسي لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) عن مكان له في اللجنة، في حين يؤكّد النظام والمعارضة أنّ الكرد ممثلون من خلال أعضاء بعضهم موال للنظام، والبعض الآخر منضو في "الائتلاف الوطني السوري المعارض".