أتبعت الجبهة إحكام قبضتها على هذه المناطق، بتفعيل وتوسيع نطاق عمل الهيئة التابعة لها والمسماة "دار القضاء في بلاد الشام"، لتتفرّد فروع الهيئة في إدارة المناطق الموجودة فيها. وفرضت على السكان أحكاماً مستمدة من الشريعة الإسلامية، تشبه الأحكام التي يفرضها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على السكان في مناطق سيطرته.
ومع تمكنها مع بداية الشهر الماضي من هزيمة قوات "جبهة ثوار سورية" المعارضة، بعد اشتباكات استمرت لأسابيع في منطقة جبل الزاوية في ريف إدلب، هيمنت " النصرة"، بالاشتراك مع حركة "أحرار الشام" الإسلامية، على معظم مناطق ريف إدلب التي تسيطر عليها المعارضة.
مع العلم أن "جبهة النصرة"، وضعت يدها على مدينتي حريتان وكفر حمرة في ريف حلب الشمالي، وعلى قرى حدودية عدة، قريبة من الحدود السورية التركية في الريف عينه، قرب خطوط الاشتباك بين قوات المعارضة وقوات "داعش".
كما تحتفظ "جبهة النصرة" ببلدات وقرى عدة في مناطق سيطرة المعارضة، في منطقتي جبال التركمان وجبال الأكراد، في ريف اللاذقية، غرب البلاد. واستبقت "الجبهة" صدامها الشامل مع كتائب "قبضة الشمال" التابعة لقوات المعارضة في شهر آب/أغسطس الماضي، بانسحابها من "الهيئة الشرعية" في حلب، والتي كانت تشكّل الجسم الإداري والقضائي الموحّد، الذي يشرف على إدارة المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في مدينة حلب، لتعلن "جبهة النصرة" عن تأسيسها لـ"دار القضاء" في حريتان.
وبعد حريتان، افتتحت "جبهة النصرة" فرعاً لـ"دار القضاء"، في مدينة سرمدا، القريبة من معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا في ريف إدلب، ثم سيطرت على مدينتي دركوش وسلقين، القريبتين من الحدود السورية، إثر اشتباكات مع "جبهة ثوار سورية"، التابعة لقوات المعارضة في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، بافتتاح فرعين لـ"دار القضاء" في المدينتين، كما افتتحت فروعاً لـ"دار القضاء" في مدينة خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي، وبلدة الناجية، الواقعة في منطقة جبال التركمان في ريف مدينة اللاذقية.
وقد تمكنت "جبهة النصرة" من خلال هذا الانتشار الواسع لفروع "دار القضاء" التابع لها، من بسيط سيطرتها على مناطق واسعة شمال البلاد، وتبدأ بإقصاء كل فصائل المعارضة السورية المسلّحة بشكل تدريجي عن إدارة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري.
وكان المنظّر السلفي المعروف سليمان العرجاني، الذي يعمل مع التنظيمات الجهادية في الشمال السوري، قد اتهم في مقال له نشرته مواقع وصفحات جهادية على الانترنت، "جبهة النصرة" بـ"التلاعب والخداع من خلال ادعاء استقلالية دار القضاء، بينما هي في الحقيقة لا تعدو أن تكون مؤسسة تنفيذية تابعة لجبهة النصرة، تأتمر بأمر قادتها".
ويشير الناشط نائل الحسن من حريتان، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أن "دار القضاء أجبرت أصحاب المحلات التجارية على إغلاق محلاتهم وقت الصلاة، وأجبرت النساء على ارتداء الملابس السوداء، وقام عناصر دار القضاء بجلد شبان من حريتان وكفر حمرة".
ولم تتمكن "دار القضاء" من بسط نفوذها خارج المدينتين على مدن وبلدات عندان وحيان وبيانون القريبة، بسبب سيطرة فصائل المعارضة السورية المسلحة وانتشارها فيها. الأمر الذي يمنع "جبهة النصرة" من فرض نفوذها.
وعلى الرغم من تعريف "دار القضاء في بلاد الشام" في بيان تأسيسها، بأنها "هيئة قضائية إسلامية مستقلة في بلاد الشام"، إلا أن الهيئة تتبع لـ"جبهة النصرة"، بشكل كامل، كما تعتمد في كوادرها وقواتها التنفيذية المسلّحة، على كوادر "جبهة النصرة".
ولفروع "دار القضاء" المختلفة تنظيم إداري يقوم على تقسيم كل فرع إلى مكاتب عدة. ويشتمل الفرع على مكتب قاضي الحدود ومكتب قاضي المعاملات ومكتب قاضي الكتائب وآخر للصلح، بالإضافة إلى مكتب قاضي الحسبة، وتخضع جميعاً لإشراف رئاسة "دار القضاء"، وتُنظّم عملها عن طريق ديوان تسجيل في المعاملات والقضايا التي تنظر بها الهيئة.
ويبدو أن تأسيس "جبهة النصرة" لهذه المؤسسة القضائية الإدارية، التي باتت تتوسع بشكل كبير وسريع أخيراً، يستنزف الكثير من إمكانات الجبهة المادية والبشرية. كما يكشف هذا الأمر، سعي "جبهة النصرة" إلى فرض نفوذ متنام في مناطق سيطرة المعارضة السورية، شمال البلاد، خصوصاً المناطق التي تعتبر آمنة نسبياً وبعيدة عن خطوط الاشتباك مع قوات النظام السوري.
ويأتي كل ذلك بعد أيام قليلة من سيطرة "جبهة النصرة" و"حركة أحرار الشام"، بالاشتراك مع عدد من فصائل المعارضة في إدلب، على معسكري وادي الضيف والحامدية، التابعين لقوات النظام السوري في الريف الشرقي لإدلب، واللذين كانا يعتبران أكبر معسكرات النظام السوري في الشمال.
كما يتزامن ذلك، مع حشد "جبهة النصرة" لقواتها في محيط مطار أبو الظهور العسكري، التابع لقوات النظام، والواقع في الريف الشرقي لإدلب أيضاً تمهيداً لاقتحامه. المطار العسكري بات معزولاً بشكل كامل عملياً، بعد سقوط معسكري وادي الضيف والحامدية بيد قوات "جبهة النصرة" وقوات المعارضة.
وستنجح "جبهة النصرة"، في حال سيطرتها على مطار أبو الظهور العسكري، في تنظيف مناطق سيطرتها في ريف إدلب بشكل كامل من أي تواجد لقوات النظام السوري. الأمر الذي ربما سيدفعها لتطوير خططها، الهادفة لجعل مناطق سيطرتها في ريفي إدلب وحلب وجبال اللاذقية، منطلقاً لبناء إمارة قوية تنافس بشكل جدي الإمارة التي يسعى "داعش" لبنائها.