سودان ما بعد رفع العقوبات الأميركية

14 أكتوبر 2017

مقر السفارة الأميركية في الخرطوم (7/10/2017/فرانس برس)

+ الخط -
كانت مصادفة أنني وصلت إلى العاصمة السودانية قبل ساعات من قرار رفع العقوبات الأميركية عن البلاد، مثل ما كانت مصادفة محضة أنني كنت من أول من سمع بقرار فرض هذه العقوبات من الرئيس الأميركي بيل كلينتون في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1997. ففي ذلك الشهر، الذي شهد عودة التفاوض بين الحكومة السودانية ومتمردي الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق، انتدبت لحضور المفاوضات مراقبا من جمعية طوعية تعمل بالتعاون مع المنظمة الحكومية للتنمية (إيغاد) الراعية للمفاوضات. وقد بقيت أياما في نيروبي بعد سفر بقية زملائي في فريق المراقبة، بطلب من وزير الخارجية وقتها ورئيس وفد المفاوضات علي عثمان. وفي صباح أحد الأيام، دعاني الوزير لأحضر معه لقاءً مع مبعوثٍ من كلينتون حضر خصيصاً لمقابلة طرفي التفاوض.
وبالطبع، كنا نتطلع إلى المقابلات الدبلوماسية المعهودة الإيجابية في مثل هذا المقام، خصوصا أن المفاوضات استؤنفت بعد انقطاع ثلاث سنوات بعد رفض الحكومة السودانية تبني "إعلان المبادئ" الذي طرحته "إيغاد" صيف عام 1994، وخير الحكومة بين القبول بنظام علماني أو منح الجنوب حق تقرير المصير. وخلال فترة الانقطاع، شهدت الحرب تصعيداً شمل محاولةً لم تنجح لإسقاط النظام، عبر تدخل مدعوم من أوغندا وأثيوبيا وإريتريا (التي قطعت علاقاتها مع الخرطوم) من ثلاثة محاور في الجنوب والشرق. وعليه، كانت عودة المفاوضات إلى الانعقاد خطوة إيجابية بعد كل ذلك التصعيد، وبتنازلات كبيرة من الحكومة السودانية بقبولها إعلان المبادئ، وبالاستمرار في قبول رعاية المفاوضات من دولٍ قطعت علاقاتها معها، وشاركت بصورة مباشرة في الحرب التي تفاوض لإنهائها، ما كان يستوجب التشجيع.

ولكن ما حدث أن المبعوث الأميركي أبلغنا بقرار فرض العقوبات، وكانت كل الإيحاءات في اللقاء، وكذلك توقيت إبلاغه ومكانه، تشير إلى أن العقوبات لم تكن لها أي علاقة بتهم رعاية الإرهاب، وغيرها من المزاعم التي وردت في الحيثيات، وإنما كانت أداة ضغط لفرض تقديم تنازلاتٍ في مفاوضات السلام، فقد كان الانطباع السائد أن مواقف الحكومة السودانية المتشدّدة هي العقبة في طريق السلام. ولعلها مفارقةً أن تلك المفاوضات كادت أن تنهار قبل أن تبدأ، لأن وفد التفاوض، برئاسة رئيس جنوب السودان الحالي، سلفا كير، قد قرّر الانسحاب، إذا طرح "اتفاقية السلام" التي كان النظام عقدها مع فصيل منشق في الجيش الشعبي، وهو ما حدث بالفعل في الجلسة الأولى. وعندما التقيت وزملائي في وفد المراقبة (كان معي فرانسيس دينغ وبونا ملوال، والدبلوماسي الكيني بثويل كيبليجات، والناشط الاثيوبي عبدالقادر محمد)، سيلفا كير وأعضاء الوفد، أبلغونا هذه النية. وقد استغرق الأمر نقاشاً طويلاً وجولة مكوكية مع الوفد الحكومي قبل إقناعهم بالعدول عن هذا القرار الذي كان سيكون ضربة قوية لجهود السلام.
لهذا كله، كان أحد أكبر أخطاء الوفد المفاوض السوداني في مفاوضات نيفاشا في كينيا (2003-2004) عدم الإصرار على رفع العقوبات شرطا لتوقيع اتفاق السلام. ذلك أن الرئيس الأميركي جورج بوش الأصغر كان متلهفاً لعقد هذا الاتفاقية بين يدي حملته الرئاسية، ولعلها كانت المرة الأولى والأخيرة في تاريخ العلاقات الأميركية - السودانية التي كان الرئيس الأميركي يكثر من الاتصالات الهاتفية المباشرة مع رئيس سوداني ليحثه على الإسراع في عقد الاتفاق. وهذه واحدة من فرص كثيرة ضيّعتها الدبلوماسية السودانية.
ولعله يمكن أن يقال إن رفع العقوبات الأميركية عن السودان تم رغماً عن تقصير الحكومة السودانية، وإفراطها وتفريطها، فقد كان الرئيس السابق، باراك أوباما، مصمماً على رفع العقوبات، في إطار مخطط لتعزيز إرثه الرئاسي، لتضاف إلى ما يراه إنجازاتٍ في حل المعضلة النووية في إيران والعلاقات مع كوبا. وقد طلب أوباما، عبر وسطاء أفريقيين، المساعدة في أمور بعينها، منها وقف العدائيات في مناطق النزاع في جنوب السودان الجديد، والسماح بانسياب المساعدات الإنسانية. وقد أوشكت هذه الاتفاقات أن تعقد، لولا عقبة رفض الحكومة السودانية أن تصل أي مواد إغاثية من خارج السودان. وبسبب لهفة أوباما على رفع العقوبات، فإن مبعوثه وجه اللوم لحركات التمرد، لعدم قبولها مقترحاً وسطاً أميركياً، ما مكن الرئيس من رفع العقوبات مؤقتاً في الأيام الأخيرة لرئاسته، وسط انتقاداتٍ شديدة من أوساط أميركية كثيرة.
بدورها، وضعت إدارة الرئيس دونالد ترامب الجديدة شروطاً إضافية لرفع العقوبات نهائياً، منها تحسين سجل حقوق الإنسان. وقد انصاعت الحكومة في هذا المجال لإملاءات مباشرة لإطلاق
سراح معتقلين سياسيين كانوا تحت المحاكمة، واتخذت إجراءاتٍ لتجنب محاكمة آخرين. ولكن هذا لم يمنع من استمرار بعض الإشكالات، لعل أبرزها وقوع صدام مع متظاهرين إبّان زيارة الرئيس عمر البشير معسكر نازحين في إقليم دارفور، نتج عنه قتل وجرح نازحين عديدين في ذلك المعسكر.
مهما يكن، رفعت العقوبات، لأسباب عدة، منها قلة اكتراث فريق ترامب بقضايا حقوق الإنسان، وضغوط من حلفاء أميركا في الخليج والعالم العربي، وأهم من ذلك كله، الاتحاد الأفريقي، إضافة إلى التعاون المخلص لأجهزة الأمن السودانية مع مثيلاتها الأميركية في مجال مكافحة الإرهاب. ولا شك أن هذا قرار يستحق الترحيب، لأن أثر العقوبات على السودان كان كارثياً، خصوصا في مجال تدفق الأموال من السودان وإليه. ويلحظ الزائر إلى السودان هذه الإشكالية في مجالات عدة، منها عدم القدرة على استخدام بطاقات الائتمان المصرفية، أو سحب الأموال، أو حتى تحديث تطبيقات الهاتف النقال، واستخدام بعض خدمات "غوغل". وعليه، فإن رفع العقوبات سينعكس بصورة مباشرة وسريعة في بعض نواحي الحياة، وسيدعم الجهاز المصرفي السوداني.
ولكن رفع العقوبات وحده لن يؤدي إلى معجزة اقتصادية فورية، كما صور الإعلام الرسمي، أو كما ذهبت إفادات المسؤولين الذين طفقوا سنوات يعلقون كل فشل اقتصادي على العقوبات. على سبيل المثال، السودان مشهور بأنه بلد غني بالأراضي الزراعية والمياه والثروة الحيوانية. ولا علاقة لهذه الموارد بالعقوبات، بل إن أوباما كان استثنى الآلات الزراعية من المقاطعة حتى قبل رفع العقوبات. ولكن الإنتاج الزراعي السوداني ظل يعاني من السياسات الحكومية الخاطئة، مثل الضرائب الباهظة، وعدم توفر التمويل، خصوصا لشراء المنتجات الزراعية وتخزينها لدعم أسعارها، والعقبات في طريق الصادر، والفساد المستشري في أجهزة الدولة، الذي ظل رادعاً للاستثمار أكثر فعالية من العقوبات الأميركية. وكنت طالبت، في مقالة سابقة في "العربي الجديد"، بأن ترفع الحكومة السودانية "العقوبات الذاتية" عن نفسها، قبل انتظار رفع العقوبات الأميركية. وأكرر هنا هذه الدعوة التي أصبحت أكثر إلحاحاً اليوم بعد رفع العقوبات الأميركية.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي