سهرة الأمثال السودانية مع عبد الله الطيّب

25 مارس 2015
عبد الله الطيب، رصاص على ورق، 24 × 34
+ الخط -

في كتابه "الرسم على الهامش"، الصادر حديثاً عن "دار سيبويه" في بيرمنغهام؛ يفتح التشكيلي عبد الله محمد الطيّب (1951) نافذة السرد ليطل منها على حقبة في تاريخ السودان مليئة بالأحداث والمقدّمات التي قادت إلى ما نعيشه اليوم.

يقع الكتاب، الذي يتضمن الكثير من لوحات المؤلف، في 144 صفحة، وهو "ليس سيرة ذاتية"، كما يقول الطيّب في مقدمته، بل هو إضافة إلى المكتبة التشكيلية السودانية، لكونه "يسلّط الضوء على العتمة التي يعمل فيها التشكيلي في السودان".

في رحلته من "الشخبطة" المبكرة على هوامش الكتب المدرسية، وحتى الدراسة في "كلية الفنون الجميلة والتطبيقية" (تخرّج عام 1976)؛ يطوف بنا المؤلف على الحياة الاجتماعية في السودان، مفسحاً مساحة واسعة في كتابه للخبرات المكتسبة في طفولته وكان لها الأثر في تشكيل مفاهيمه ورؤاه في ما بعد.

تشبه كتابة الطيّب الحديثَ معه، فهي متواترة، بلغة تصويرية سلسة، مشحونة في إيجازها بعصير خبرته وتأملاته. فخلف كل تعبيرٍ مغزى، وخلف كل حكاية حكمة مستفادة، ما يجعل قراءته أشبه بمجالسة "مؤلف أمثال"، إن كان هناك واحد.

يتميز السرد في "الرسم على الهامش" بالتغاضي عن الترتيب الزمني المتسلسل للأحداث، والاستعاضة عنه بالعلاقات والتأثيرات المتبادلة التي تربط الأحداث وفق سياقات مشتركة. لكن ثمة خيط زمني خفي ينظّم السرد في سلسلة من المقدّمات والنتائج، ترسم تلك اللوحة التي يرينا فيها الطيّب منظراً مختلفاً للواقع، غير ما نكابده اليوم.

ويستخدم الطيّب التساؤلات لربط أجزاء قصته، وفتح أفقَ المقارنة لدى القارئ بين ما يقرأ عنه وما يراه الآن، متيحاً له رصد تلك التحوّلات المبكرة التي طرأت على قيم التسامح السودانية العتيدة، وقادت في النهاية إلى التطرّف الذي وسم الحياة في السودان منذ استيلاء جماعة "ثورة الإنقاذ" على السلطة عام 1989.

وبينما تفوح رائحة السودان الآمن من بين صفحات الكتاب، حين يروي المؤلف قصص تجواله في أنحاء بلده الذي بات اليوم بؤرة للحرب يستحيل الاقتراب منها؛ يجعل القارئ يرصد التغيّرات ويحلل العوامل التي أدّت في النهاية إلى حلول الخراب مكان الجمال الذي كان.

ولأنه كتاب مهموم بالتشكيل في الأساس، تبدو عبارة: "هنا محدِّش محتاجنا"، التي ألقى بها التشكيلي المصري محيي الدين اللبّاد (1940 - 2010) على مسامع الطيّب، في مسامرة بينهما؛ وكأنها مفتاح استخدمه الطيب ليلج إلى تأملاته حول التشكيل والحياة، بمحاولة الإجابة على سؤاله: "لماذا؟".

إذ يوحي النقد المتأنّي والقاسي لمناهج التعليم في تعاطيها مع الملكات الإبداعية للطلاب، ونقد المؤسسات القامعة للحرية مثل "الأسرة والمدرسة" التي يصفها الطيّب بأنها "مؤسسات للترويض الاجتماعي"، بمدى انشغاله بالدور الذي ينبغي أن يلعبه التشكيل، والفنون عموماً، في المجتمع، على حساب ثقافة الحرب والإقصاء الرائجة.

ويأتي تحليل الطيّب للنظرة الاجتماعية إلى التشكيل، المدعومة من تحالفات المصالح والنفعيين والمستغلين، باعتباره شيئاً "لملء وقت الفراغ" وليس عملاً قائماً بذاته على قدم المساواة مع أي فعل حياتي؛ ليقود القارئ بتأملاته النافذة، حتى تلك اللحظة التي مرَّ فيها على مصلحة الثقافة السودانية، مديرٌ يؤمن بأن أعمال النحت ما هي إلا أصنام! ليصل الأمر بعدها إلى مفارقات مُرّة، من شاكلة أن تتحول إحدى أشهر صالات العرض، في قلب الخرطوم، إلى مركز للشرطة.

بنزعته النقدية والتحليلية تلك، يمرّ الطيب على تاريخ كلية الفنون ومعهد الموسيقى والمسرح، وما آلا إليه اليوم، ملقياً الضوء على جوانب لم تحظَ من قبل بالإضاءة، منطلقاً من سيرته الذاتية، لتناوُل السير الموجِعة لعدد من الشخصيات ذات الأثر في الثقافة السودانية، مثل الشاعر محمد عبد الحي، والتشكيلي عمر خيري، والموسيقار حمزة علاء الدين الذي دفعه عدم احترامه في وطنه إلى الهجرة عنه إلى الأبد.

أخذت الهجرة سنوات طويلة من الطيب رصدها في كتابه، قبل أن يؤوب منها ليجد أن مدينته الأثيرة، الخرطوم، التي أنفق صفحات مقدّرة من الكتاب لوصفها في سبعينياتها وثمانينياتها؛ قد ماتت، وتمّ "تلفيق" مدينة أخرى قبيحة مكانها.

عبد الله الطيب،  32 × 40، مواد مختلفة


وبعد شغله لوظائف متعددة في الصحف، ومصلحة الثقافة، والتدريس، وتماسه مع التنظيمات السياسية والأيديولوجيات، في عهود تفاوتت بين الديمقراطية والشمولية؛ يوجه الطيّب سهام نقده نحو الجميع، من في السلطة ومن في المعارضة، اليسار واليمين، فهم في نظره متشابهون في استغلال الناس من أجل تحصيل الثروة والسلطة.

ويخلص الطيّب في كتابه، إلى أن "الانحطاط والتردي الذي يشكّل واقعنا عموماً والواقع الثقافي خصوصاً، ليس وليد الصدفة أو الحظ العاثر، إنه نتيجة عمل دؤوب ومثابر يضطلع به أفراد على كافة مستويات المسؤولية والسلطة وندعمه جميعاً حين نتحوّل إلى شياطين خُرْسان".

هو كتاب ثري بالتفاصيل، أقرب إلى شهادة أو تأريخ لعصر شهد تحولات وانعطافات أوصلت السودان إلى حافة وجوده المهدَّد اليوم.

المساهمون