سنحرمكم من العدو

27 اغسطس 2015
تلك التجربة استلهمها النبيه الحالي الممسك بمقاليد مصر (Getty)
+ الخط -
عام 1989 وقف ألكسندر أرباتوف -المستشار الدبلوماسي لآخر رؤساء الاتحاد السوفييتي- ليقول أشهر جمله التي توجه بها لخصوم دولته: "سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو".


يعتبر مراقبون أنه بعد تفكك الاتحاد السوفيتي حدث اضطراب في تفسير الأزمات العالمية حتى وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011، فقد كانت الأزمات -في الأغلب- تُفسّر وفقا للصراع الدائر بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وبعد تفككه زال التفسير الأوَّليّ للعديد من الأزمات الكبرى على مدار عقود، مما حرم الغرب من أهم مواد تسويقه للمارسات غير الأخلاقية التي كان يقوم بها، ومثلت أحداث سبتمبر بالإضافة للاستراتيجية الأمريكية المتبلورة في 97 "مشروع القرن الأمريكي الجديد"، نقطة جديدة في عملية تفسير الأزمات العالمية، والتي استمرت حتى الآن، وخلاصتها مجابهة محور الشر، أو بشكل أدق: "الحرب على الإرهاب".

أصبحت فكرة الحرب على الإرهاب تسوّق دولياً بشكل جيد، وعليها استندت معظم الأنظمة المستبدة لكبح دعوات الانتقال من حالة الشمولية للديموقراطية، فتمت إثارة فزاعات الإرهاب بكل مكان سواء للترويج للاحتلال الخارجي كما فعلت أمريكا، أو لتبرير القمع الداخلي، أو لتجاوز حقوق الإنسان عموماً، سواء كان المعتقل خاضعاً لسلطة دولة متقدمة أو نامية، وبفضل تلك الاستراتيجية النبيهة صار الإرهاب غير متحكَّم فيه.

تلك التجربة استلهمها النبيه الحالي الممسك بمقاليد مصر، فتحدث عما سماه إرهاباً محتملاً، ثم صار واقعاً لا يقدر على القضاء عليه في وطنه، ويريد تصدير رؤيته "التي يطلبها القادة والفلاسفة" للجيران بالتوجه بعملية عسكرية في ليبيا، وأصبح الحديث بمصر عن الإرهاب لا ينقطع، وإلصاقه يتصل بجماعة الإخوان باعتبار تمثيلها الكتلة الاجتماعية الأبرز في المجتمع -رغم تآكل شعبيتها- فما الذي يمكن عمله لكسر تلك الحالة؟

ما قاله أرباتوف منذ ثلاثة عقود تقريباً يمثل أحد أهم حلقات كسر الترابط الهش الذي تقوم عليه الدولة الحالية، فما تقتات عليه ويحفظ ترابطها وجود ذلك الخصم الذي تم تصويره للناس، بأنه "إرهابي، متطرف، متمرد، مخرب..إلخ"، وبناء على تلك الدعاية يتخفف النظام من كل نقيصة لديه باعتبار الخوف من "الأشرار" فـ "أهل الشر شر" كما يقول الحكيم الحاكم لمصر، وكذلك يتم إخفاء موارد الدولة بناء على تلك المعطيات.

التساؤل بوضوح: هل يمكن للطرف المقابل للنظام الحاكم أن يقوم بحرمانه من العدو؟ فيعلن إنسحابه الكامل عن المشهد السياسي "التنافسي" ويفوت فرصة تماسك تحالف إدارة الدولة الحالي؟ إذا وصل الطرف المنعوت بالإرهاب لتلك القناعة، ثم وجد الشجاعة الكافية فربما يحدث تغيرا كبيرا وحقيقيا في إدارة المشهد؛ فالدولة تتحرك بناء على معطى أن خصومه سيظلون مستمرون في الحراك، وهي مستفيدة منه طالما أنه بقي في حدود يمكنها التحكم بها، ذلك الانسحاب لا يستلزم بالضرورة الغياب عن المشهد العام الدعوي والاجتماعي بل وحتى السياسي غير التنافسي، وكذلك لا يستلزم تنازلاً أو إقراراً بشرعية النظام الحاكم.

يقابَل الطرح بأن ذلك معناه انتصار للنظام بوحشيته وفساده، وهو -في تقدير الفقير- ليس انتصارا تاما بل هو لحظيّ باعتبار ما سيَسْتَتْبِع ذلك من حراك وإحراج لأطراف كثيرة على صلة بالحاصل داخل مصر، والتحرك الأحادي ينفع كثيرا بحسب ظرف الحراك، خاصة في ظل قصور الحراك على رد الفعل مع الدولة لا المبادأة، واستمرار استراتيجية المجابهة العنيدة فقط بصورتيْ التظاهر والعنف لن تجدي في إحداث صدع داخل الدولة بنفس ذلك المقدار، والوسائل تتكامل ببعضها ولا يلزمها التنافر والتقاطع.

يبقى تساؤلان عن النظام:
هل سيمتنع النظام عن المراوغة بمجرد الانسحاب؟ بالقطع لا ولكن دائرة خياراته ستضيق بدرجة غير معهودة له من قبل.

هل النظام ليس مجرماً فعلاً وإشكاله مع التيار الإسلامي فقط؟ لا أحسب أن هناك جدالاً في إجرامه المتأصّل، وإشكاله مع الثورة كلها وخاصة مع التيار الذي يحمل حضوراً اجتماعياً أكبر وصادف أنه عند الإسلاميين، والمطلوب تضييق الخناق عليه واتساع دائرة المجابهين له بشكل مباشر.

الدعوة أقرب لإعادة النظر في الحراك عموماً، لا قصره على فكرة محددة، وكل الأفكار تحتاج لتطوير، لكن العقبة الكؤود في عقول من يفترض بهم التطوير وفتح أفق التفكير نحو طرق أنجع.

(مصر)
دلالات
المساهمون