سميح القاسم في بيروت
لم يزر سميح القاسم بيروت، دعي إليها غير مرة، لكنه لم يتمكّن من القدوم إليها. زار عواصم ومدناً عربية عديدة، ووجد فيها حفاوةً ومحبة كثيرتيْن. لا مناسبةَ للإتيان على بيروت، في هذا المطرح، سوى أن هذه السطور تنكتب فيها، وأنني وجدت في اهتمامها بالشاعر الكبير، في صحافتها وتلفزاتها وأهل النشاط الثقافي فيها، مع وفاته، ما يؤكد بديهيةً، يحسن التنويه دائماً إليها، موجزها أن هذه العاصمة العربية، مع كل التراجع الحادث فيها على غير صعيد، تبقى رئةً أولى للثقافة العربية، وأنها مهما تقلبت عوادي الزمن فيها، ومهما قضمت الركاكة والرثاثة من مساحات العقل والجمال والوداعة فيها، تظل قادرةً على حماية نفسها مما يُراد أن تؤخذ إليه من تفاهةٍ، ومن عروبةٍ منقوصةٍ ومضروبة. والقول، هنا، إن السعة الوفيرة للحريات الفردية والإعلامية في لبنان تتيح مساحاتٍ لكل تعبيرات الانسحاب من الوجدان العروبي الجامع، ولكل ازورارٍ في المجال العام عن الرابط القومي مع الأمة العربية الواحدة، لكنها حيويّة المجتمع المدني، ويقظة نخبةٍ فيه، دؤوبةٍ وجديةٍ ومثابرة، تيسّر مضاداتٍ لتلك الممارسات ومصدّات لها.
لبنان البلادولة، على ما وصفه عنوان مقالةٍ افتتاحيةٍ لرئيس تحرير صحيفةٍ بيروتيةٍ بارزة، وقعت عيناي عليها مع صعودي إلى الطائرة اللبنانية التي أخذتني إلى بيروت، طراز خاص من الأوطان، تحبّ فيه، وأنت زائرُه الشغوف به، تعايش ناسِه مع الأزمات المركبّة فيه، والاستسلام للقناعة العريضة فيه عن البلد ساحةً لهبوب رياح الآخرين فيه. وفيما ناسٌ فيه يشرّقون وآخرون يغربّون، فإن سميح القاسم يجد له حصةً بين الجميع، ليس فقط باعتبار واقعة وفاته مناسبةً للإضاءة الصحفية على شخصه وسيرته ومنتوجه، بل ثمّة فيه ما يزكّي الانتساب إلى فضاء وطني، محلي وقومي، لا يمكن للبنان أن ينبتّ عنهما. وهذه الفضائيات اللبنانية، من مختلف التلاوين والخيارات، تعطي الرجل مساحاتٍ للحديث عنه، باستضافة المختصين والعارفين بالشعر والثقافة وبفلسطين، وهذه الجرائد تفرد صفحات وملاحق للخوض في السمت القومي الذي كان سميح القاسم يحرص عليه، مثقفاً مهجوساً بمناهضة الاحتلال الإسرائيلي، وهو آخر من مضوا من شعراء المقاومة الفلسطينية في طورها الذي ذاع، قبل أزيد من خمسين عاماً.
لا نتحدث عن هندوراس أو ناميبيا، حتى يُستغرب الانشغال الإعلامي اللبناني، الثقافي منه والعام، بسميح القاسم، فلبنان بلد عربي، ومن منابره وصحافاته ودور النشر فيه كانت أولى إطلالات الشاعر الكبير العربية على قرائه خارج فلسطين. ولكن، يحسنُ تثمين الحقيقة الأوضح، وهي أن هذا البلد يبقى، على الرغم من كل العطب العربي الغزير، ومن كل التردّي الظاهر فيه، يبقى الأقدر على تظهير الوجه الأكثر نضارةً في المطارح العربية، وعلى تعيين وجهة البوصلة الأصلح تأشيراً، في غضون كل هذه المتاهات قدّامنا. وفي الوسع أن يقال هذا كله، وغيره، فيما الذي يقترفه حزب الله في سورية ضاعف من تعقيد هذه المتاهات. وفي الوسع أن يقال، أيضاً، إن سميح القاسم، عندما تخصّص له، في بيروت، أكثر من ندوة في أندية وتجمعات ثقافية، وفي عدة تلفزاتٍ محلية، فذلك مما يعني أن مقادير العافية في هذه العاصمة العربية وفيرة، وأنها تحافظ على مرتبتها الأولى عاصمةً للثقافة العربية، من دون حاجتها إلى موسمية اليونسكو إياها.
كولاجات سميح القاسم الشعرية، ومشهدياته وسردياته المسرحية وملحمياته في كتبه التي اقتربت من السبعين، تجد لها، هنا في بيروت، من يحفل بها، أكثر مما يحدث أن ينتبه إليها في عواصم عربية أخرى. وليس تحفظاً على غواية جلد الذات إياها، أقول إن بيروت باقية على مقادير رائقةٍ من حرارةٍ خاصة، من حيث الانتباه إلى الشاغل الثقافي، وإلى المتاريس الوجدانية الواجبة لصيانة الناظم العميق لتفاصيل الثقافة العربية ورهاناتها، في الراهن والمستقبل، ومن حيث الانتباه إلى فلسطين، وسميح القاسم من عناوينها الباقية.