في حيّز زمني لا يتجاوز الدقيقة الواحدة، ينسج الشاعر والروائي سليم بركات أحداث روايته الجديدة "سجناء جبل أيايانو الشرقيّ" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر).
العمل الواحد والعشرون في مسار بركات الروائي، ينقل قارئه إلى أجواء مختلفةً عن آخر خمسة عناوين صدرت له. هكذا، يبتعد صاحب "السيرتان" هذه المرة عن عناصر التاريخ والميثولوجيا المختَلقين، ليصوغ أحداث ثماني عشرة جريمة قتلٍ بأسلوبٍ بوليسيّ، حدثت داخل مدينةٍ عصريةٍ، ربما كان اسمها مختلَقاً في الرواية، لكنها تشبه إلى حد بعيد أي مدينة أوروبية.
تعرض الحكاية "سلسلةً من جرائم القتل التي يقاضى مرتكبوها لا بما يقابل الجناية فداحةً، بل بعقابٍ ملتبسٍ في تساهلهِ: أن يقدموا اعتذاراً إلى من قَتلوا"، بحسب كلمة الغلاف. هكذا، يجمع سجن جبل أيايانو الشرقي ثمانية عشر قاتلاً لا مشترك بينهم سوى أن كل واحدٍ منهم قتل فرداً من عائلته. شخص مجهول السيرة يقاسمهم عتمة سجن "راووت"، سيقترح عليهم أن يذهب كلّ منهم على حدة في رحلةٍ إلى قمم جبل أيايانو الشرقي، لتقديم اعتذارٍ إلى القتلى.
تمتد الرواية على ستة عشر فصلاً، ينقسم كل منها إلى جزأين: الأول لسرد أحداث وقوف كل قاتل أمام الرجل غير مفهوم السيرة من أجل الاستجواب والخوض في رحلة الاعتذار. أما الثاني، فيعرض فيه بركات تفاصيل ليلة القتل، مع لهوٍ بالقارئ من خلال الحبكة التي لا تدّلل على انفراجٍ في أحداثها حتى الصفحات الخمس الأخيرة: القتلة يصعدون الجبل ويثرثرون حول مفهوم القتل، دافعه، جزائه، والعدالة.
"ما علاقة الرياضيات بالقتل؟" يسأل أحدهم زميله، معلم الرياضيات ماهاهون، أثناء رحلة صعود الجبل، فيجيب "التجريد". "الرياضيات تجريد نعم. كيف يكون القتل تجريداً يا سيد ماهاهون؟"، يعيد سؤاله، فيرد ماهاهون: "حين نقتل لا نرى القتيل؛ تنقلب الصور إلى فراغ مبهم كالحال المبهمة التي لن يكون الوقت قبلها متصلاً بالوقت بعدها، ما من يقين، ما من شك في برهة القتل، لا خفة لا ثقل".
هكذا، تتشعّب الحوارات في العمل بين الفلسفي والشعري والواقعي، إذ يتّسم كلّ واحد من القتلة بثقافة خاصة: فيهم معلم الرياضيات، والطبيب، والرياضي، وصانع الحلويات. هذا التنوّع يمنح الرواية عُمقاً يتميّز بالطرافة في بعض الأحيان.
في الثلث الأخير من النص، تبدأ الأحداث بالانعطاف إلى منحى غامض، فيخال القارئ أن خللاً أصاب بنية الرواية، لكن بركات سيعود قبل أن تنتهي صفحات الرواية ليأخذ بقارئه من يديه إلى مكمن لعبته السردية: كل ما حدث منذ بداية الرواية لم يكن إلّا هذيان الشخصيات الثماني عشرة لحظة إعدامها عن طريق غرز المصل في أجسادها.. ولا وجود حقيقياً لرحلة الاعتذار.
لكن الرواية لا تنتهي هنا، إذ يعاود بركات قلب الطاولة وعقد حبكة جديدة في الصفحة الأخيرة، فربما ستبدأ الشخصيات، في حياة أخرى، رحلة اعتذار إلى ضحاياها.