شكل إعلان سلفيو موريتانيا إنشاء حزب "جبهة الأصالة والتجديد" السياسي، جدلا واسعا في الساحة السياسية الموريتانية، بعض المهتمين بالشأن السياسي رحب بالقرار، واعتبره تجازوا لعقدة الفهم السلفي المتشدد للديمقراطية، بينما ظهرت أصوات أخرى، تبدي انزعاجها البالغ.
"العربي الجديد" رصدت عددا من الشواهد المتعلقة بهذا الإعلان، عبر خبراء ومحللين موريتانيين حذروا من ظهور نسخة سلفية موريتانية مشابهة لحزب "النور" المصري السلفي والموالي للانقلاب العسكري على الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي.
المتخوفون من إعلان السلفيين عن حزبهم، يرون في الأمر فائدة محققة للأجهزة الأمنية التي تطمح من وراء قبولها ترخيص حزب السلفيين، إلى إيجاد أرضية للتأثير على انتشار قبول حزب "تواصل" المحسوب على تيار "الإخوان المسلمين"، الذي استطاع حتى الآن أن يحرز المكان الثاني بين القوى السياسية بعد أن حلّ ثانيا في الانتخابات البرلمانية والبلدية بعد حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، مما أثار حفيظة النظام وتسبب في إغلاق بعض المؤسسات التعليمية التي يتملكها "تواصل"، خاصة بعد تقاربه المعلن مع دولة الإمارات العربية المتحدة والتي لديها موقف رافض لتيارات جماعة "الإخوان المسلمين".
ويدلل أصحاب الرأي السابق على صحة ادعائهم، بأن السلفية السياسية في موريتانيا هي أحد أجنحة السلفية العلمية الداعمة للأنظمة السياسية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال حتى اليوم، وهو ما يتضح من دراسة الرافد الفكري والعلمي للسلفية في موريتانيا.
رئيس العمل الإسلامي
يرى محمد ولد الشيخ إمام مسجد بمقاطعة توجنين في العاصمة نواكشوط، وأحد المنتمين إلى التيار السلفي في موريتانيا، أن السلفيين قرروا الدخول في غمار السياسية عبر تأسيس حزب جديد، لأنهم يأملون في خدمة الوطن والمواطن عن طريق تطبيق الشريعة الإسلامية، والشدّ على يد النظام الحاكم من أجل التحلي بالقيم الدينية ومساندة السلفيين في تحقيق مكاسب حقيقية من شأنها أن تعطي دفعا باتجاه ترسيخ دعائم دولة العدل والمواساة التي يطمح إليها الجميع.
وقال ولد الشيخ لـ"العربي الجديد" إن الحراك السياسي السلفي الحالي لا يتوجه إلى ثلة معينة من الموريتانيين، بل هو حراك مفتوح للجميع، وذلك لربط أواصر المحبة ونشر الدعوة الإسلامية في ظل حرية التعبير التي يوفرها نظام الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز للجميع" وفق تعبيره.
وخلص ولد الشيخ إلى القول إن التيار السلفي السياسي في موريتانيا ليست له مشاكل مع النظام، بل إن العديد من قادته باركوا مسيرته وأيدوه على ما قام به من دعم للإسلام، مشيرا إلى أن إمام المسجد الجامع في نواكشوط أحمدو ولد لمرابط يعتبر من قادة التيار السلفي السياسي، وهو أول من أطلق اسم "رئيس العمل الإسلامي" على الرئيس الحالي محمد ولد عبدالعزيز".
تناقض العلاقة مع الدولة
رصدت "العربي الجديد" علاقة التيار السياسي السلفي الموريتاني مع الأنظمة العسكرية الموريتانية، وقد كشف الرصد عن محطات مختلفة ومتناقضة، تبدأ منذ أن بسط العسكريون سيطرتهم على مقاليد الحكم في البلد عبر أول انقلاب عسكري في العاشر من يوليو/تموز عام 1978، إذ ظلت علاقة السلفيين بنظام الحكم علاقة غير مريحة بسبب مناهضتهم الشديدة له، والتي تجلت في تصادمهم مع نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع الذي قاد ضدهم أبشع حملاته الأمنية وحمّلهم مسؤولية العديد من العمليات التي استهدفت أمن البلد واستقراره.
ظلت أجهزة الأمن في موريتانيا تعتقل شباب السلفية وتعتبرهم المسؤول الأول والأخير عن نفوذ تيار الغلو والتطرف الذي شهدته البلاد إبان السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع وهو ما دفع بالتيار إلى الانقسام والتشرذم بعد زج أغلب قادته وشبابه في السجون، بعيد الإطاحة بالرئيس ولد الطايع في انقلاب عسكري عام 2005، وقتها أعلن السلفيون مراجعات فكرية جديدة مفادها تخليهم عن التشدد والغلو والقطيعة التامة مع المعتقلين من التيار والمتهمين بالانتماء لحركات متشددة، من أبرزها تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي".
تعتبر مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري على أول رئيس مدني منتخب في موريتانيا سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله عام 2008، من أبرز المحطات التي أدت إلى تقارب وجهات النظر بين السلفيين والنظام الحاكم، كما كان لها دور محوري في توتر علاقتهم بالقوى السياسية المعارضة وعلى رأسها تيار "الإخوان المسلمين" الممثل بحزب "التجمع الوطني للإصلاح والتنمية" (تواصل) الذي يملك أكبر تمثيل برلماني بعد الحزب الحاكم.
ويرى الكثير من الباحثين الموريتانيين أن الولوج الأخير من بعض السلفين إلى ساحة السياسية من خلال حزب "جبهة الأصالة والتجديد" المعروف اختصارا باسم (تاج) يمثل حدثا سياسيا مثيرا للاهتمام من زوايا مختلفة، انطلاقا من اعتبارها المرة الأولى التي تعلن فيها شخصيات سلفية في موريتانيا عن تعاطيها الإيجابي مع الديمقراطية بعد طول تحفظ، سبقته الإدانة، مما جعل التيار السلفي في نسخته المحلية خارج دائرة العمل السياسي، مكتفيا بالعمل الدعوي والعلمي والاجتماعي، في حين تملكت نزعة جهادية فئات أخرى أقل.
الباحث الموريتاني سيدي أعمر ولد شيخنا قال لـ"العربي الجديد" إن هناك جانبا من التوجس حول الحزب الجديد يتعلق بالسياق العربي العام المعادي للربيع العربي وقوى الإسلام السياسي بسبب توظيف بعض الأحزاب السلفية في لعبة مناكفة وتشويش على الأحزاب الإسلامية ذات المشاريع المجتمعية والالتزام الديمقراطي الجاد في دول الربيع العربي، وأبرزها مصر وتونس.
ويؤكد ولد شيخنا أن ما زاد من تعميق هذه المخاوف "غياب العديد من الشخصيات السلفية الوازنة من الشيوخ والشباب عن الحزب الجديد في مقابل الاحتفاء النسبي للسلطة وأبواقها بالحزب الذي يأتي بعد تصدر حزب "تواصل" ذي الخلفية الإخوانية لزعامة المعارضة الموريتانية وما أثار ذلك من هواجس لدى السلطة ومراكز صنع القرار السياسي والأمني".
تكرار تجربة النور المصري
يعتبر التيار السلفي الموريتاني بشكل عام امتدادا لعدة مدارس ومذاهب تختلف بشكل أو بآخر عن بعضها بعضا، سواء في التعاطي مع المجتمع، أو الدولة، والسلطات من جهة، أو في مسألة الديمقراطية وقبولها من الأساس، فهناك سلفية علمية مهتمة بالأصول والعودة إلى منهج السلف، ولا تبالي كثيرا بمقتضيات العمل السياسي على الأقل كجماعة منظمة، كما توجد السلفية التكفيرية، أو الجماعات الجهادية، التي يتبناها تحديدا في موريتانيا عدد من الشباب، وأهم قياداته في السجون ولا يهتمون بالعمل السياسي وفق الآليات الدستورية والقانونية، لأن المنهج المتبع لديهم هو رفض المؤسسات الدستورية والقانونية بوصفها حكما للطاغوت، ويصل الأمر ببعضهم إلى قتال الأجهزة الأمنية (المؤسسة العسكرية والشرطة).
ويرى الباحث في شؤون الجماعات الاسلامية محمد الأمين ولد سيدي مولود، أن تجربة السلفيين الموريتانيين مع السياسية كانت مع بروز ما عرف بالتيار السلفي "المخزني" كما يعرف مغاربيا، و"المدخلي" كما يعرف مشرقيا نسبة إلى الشيخ السعودي ربيع المدخلي، "هؤلاء يميلون مع الأنظمة حيث مالت، فإن أتت النظم بالديمقراطية قال السلفي إنها أقرب إلى الشورى، وإن أتت النظم بالقوة والانقلابات والقهر قال بوجوب طاعتها، فهو يساير "حذام" كما في المثل العربي".
ولد سيدي مولود، أضاف لـ "العربي الجديد" أن بعض التيار السلفي في موريتانيا (ممثلا بمرجعيات علمية كبيرة) كان مواليا للأنظمة منذ نشأة الدولة إلى اليوم، والجديد في الأمر أن بعض الذين عارضوا الأنظمة ذات يوم، أو كفروها راجعوا بعض قناعاتهم وأفكارهم وقبلوا بالآلية القانونية والدستورية".
واعتبر ولد سيدي مولود، أنه شخصيا لن يكون سعيدا بأن يتم الترخيص لحزب سياسي قد يضايق الفن بكل أنواعه، أو يحد من حضور المرأة في المشهد العام مثلا، أو قد يوجب على الناس الطاعة العمياء لحاكم فاسد، أو يوجب عليهم حمل السلاح ضد الدولة، على الكثير من الأصوات، مضيفا أنه مع ذلك سيظل يقاتل عنه لينال حقه مثل كل الأحزاب مادام قبل آلية شرعية سلمية، فلا مجال للحكم على نيات مفترضة، وليختر الشعب ما يناسبه".
الدفاع عن التجربة
الشيح محفوظ ولد إدوم رئيس حزب "جبهة الأصالة والتجديد" رد على الاتهامات السابقة، وخاصة تشبيه أدائهم السياسي بتجربة حزب "النور" المصري بالقول "هذا تشبيه سابق لأوانه فحزبنا لا يزال قيد الإنشاء، والحكم علينا في هذا السياق استباق للأمور، ونحن بصدد تنظيم مؤتمر صحافي لتوضيح مسارنا السياسي".
وقال ولد إدوم لـ "العربي الجديد" إن "من يريد الحكم على أداء حزبهم سياسيا، عليه أن ينتظر بدء تجربتهم السياسية بشكل فعلي، مشيرا إلى أن أي حكم عليهم حتى الآن، هو مجرد ظلم".
وأضاف ولد إدوم "نحن لنا رؤية فكرية وسياسية ومبادئ وأهداف وقربنا من النظام الحاكم أو المعارضة مرتبط دائما بقدر ما يكون قربهم أو بعدهم من تلك الأهداف والمبادئ والرؤية الفكرية التي نتبناها" فقط.
وخلص ولد إدوم إلى أن تعاطيهم في حزب"جبهة الأصالة والتجديد" أو في التيار السلفي مع الآخرين يكون دوما مرتبطا بمسألة المبادئ والأفكار فقط".