29 أكتوبر 2024
سقوف المواجهة الأميركية الإيرانية المحتملة
بعد سنواتٍ من الملاينة والموادعة وغض البصر، من جانب الإدارة الأميركية السابقة، تجاه التنمّر والتبجّح والتمدّد وروح التحدّي الإيراني، فضلاً عن اختلال موازين القوى في المنطقة، بدأت تهب، أخيراً، رياحٌ سمومٌ جافة، محمّلة بغبار التوعدات والتحذيرات والإنذارات التي أثارتها تصريحاتٌ لم تنقطع من إدارة دونالد ترامب، كانت سحبها قد تجمعت في سماء العلاقات الإيرانية الأميركية إبان حملة الانتخابات الرئاسية، ثم راح لفحها يزداد سخونةً، بمتواليةٍ هندسية، طوال الأسبوعين الأولين من عهد الإدارة الجمهورية.
شكّل اعتراض الرئيس الأميركي الجديد على الاتفاق النووي بين إيران والغرب نقطة الارتكاز الجوهرية في ما بدا أنه حملة أميركية أشمل على الجمهورية الإسلامية، التي انتزعت في هذا الاتفاق موافقة واشنطن على الاحتفاظ بمنظومةٍ صاروخية وبقاعدة تكنولوجية تمكنها، في وقت لاحق، من تصنيع قنبلةٍ ذرية، فضلاً عن حصولها، في الوقت ذاته، على اعترافٍ ضمني بدور إقليمي مهيمن على أربع عواصم عربية، ناهيك عن التسامح مع تحرّشات البحرية الإيرانية مع الأسطول الأميركي وبعض الدول الخليجية.
كان الاتفاق النووي مع إيران أحد أهم بنود الحملة الدعائية للمرشح الجمهوري القادم من عالم العقارات، حيث تعهد دونالد ترامب بإلغائه، وإن أصبح معاهدة دولية غير قابلة للنقض من جانب واحد، ويتطلب تمزيقه إعادة بناء موقف دولي، يتعذر الآن تحقيقه، الأمر الذي حدا بالإدارة الجديدة إلى نقل مركز ثقل حملتها ضد إيران إلى منصّة أوسع، تتيح لها القفز بسهولةٍ أكبر نحو نقطة اشتباك مريحة، عمادها اتهام إيران برعاية الإرهاب وتصديره، باعتبار أن مثل هذه التهمة هي أكثر التهم رواجاً ومقبوليةً في زمن الحرب ضد هذه الآفة الكريهة.
ومع أن عهد دونالد ترامب في بداياته المبكرة، إلا أن مستشاريه وكبار مساعديه، الممتلئين حنقاً ورغبةً في تسوية الحساب المؤجل مع آيات الله، قد تمكّنوا سريعاً، من استبدال هدف إلغاء
الاتفاق النووي، بفعل معارضة الشركاء الأوروبيين أساساً، بهدف شيطنة إيران، وتنميط صورتها دولة راعية لأشد ظاهرة إثارة في هذه الآونة، هذه الظاهرة التي حشدت لها الولايات المتحدة حلفاً من نحو ستين دولة، فيما بدت دولة الولي الفقيه أقرب إلى حليف موضوعي، يشارك في الحرب الكونية هذه بحماسة شديدة، خصوصاً في سورية والعراق.
ومن بين كل ما توعد به ترامب، وتعهد بتنفيذه في مجال السياسة الخارجية، تبدو المواجهة المحتملة مع إيران أكثر هذه التعهدات قابلية للتحقق في المدى المنظور، حيث تشير التصريحات المتدفقة على ألسنة أركان الإدارة الجمهورية إلى ارتفاعٍ تدريجي في نبرة التهديدات التي ارتقت، أخيراً، إلى مرتبة الإنذارات والتحذيرات، من مغبة استمرار طهران في تعريض مصالح الولايات المتحدة، ومصالح حلفائها، إلى مخاطر لا يمكن غضّ النظر عنها، على نحو ما كان عليه الحال في عهد إدارة باراك أوباما المتهاونة.
ولعل هذه النبرة الأميركية الحادة، وغير المعهودة منذ وقت طويل، إزاء اختبار طهران صاروخاً بالستياً متوسط المدى، خير دليل على عزم واشنطن تطوير موقفها بصورة دراماتيكية، وقلب ظهر المجن، لدولةٍ لا تكتفي برعاية الإرهاب، والتحرّش بالملاحة الدولية في باب المندب، وتزويد المليشيات الحوثية بأسلحةٍ محظورة، وتقود عدة مليشيات مذهبية في سورية، وإنما تبادر، فوق ذلك كله، إلى خرق التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وتتعمد الإعلان تجربة إطلاق صاروخ، قد يكون مؤهلاً لحمل رأس نووي في المستقبل.
ويبدو أن إدارة الرئيس الأميركي الجديد قد قرأت التجربة الصاروخية الإيرانية، أخيراً، اختباراً لمدى جدية نوايا دونالد ترامب وفريقه المتواترة، بكبح جماح قيادة الحرس الثوري، وتحجيم دور طهران الإقليمي، والحد من تدخلاتها الفظّة في شؤون الشرق الأوسط وشجونه التي لا حصر لها، من دون أن يسقط من البال هدف تأمين مزيد من الحماية لحليف أميركا الأول في المنطقة، إسرائيل المدللة التي اعترضت بشدة على الاتفاق النووي في حينه، من دون أن تنجح، في حملتها، أمام إصرار أوباما على تحقيق إنجازه الأوحد.
السؤال الذي لا ينفك عن طرح نفسه، حتى وقت غير معلوم، هو إلى أين ستمضي مثل هذه
المواجهة حامية الوطيس، كلامياً على الأقل، بين واشنطن ذات الفم الكبير وطهران ذات الفم الأكبر؟ وما هي سقوف المجابهة التي قد تنزلق إلى نقطةٍ يصعب العودة عنها من طرف إيراني يبالغ كثيراً في قدراته الحربية وصلابته العقائدية، وطرف أميركي لا يشك أحد في تفوقه العسكري بصورة ساحقة، إذا ما انجرف الطرفان معاً بصورة تلقائية، أو انجرف أحدهما لخطأ ما في الحساب، ووقعت الواقعة التي قد تغيّر وجه الشرق الأوسط؟
وبعيداً عن المقاربات الرغائبية، والتوقعات المسرفة في الخيال، فإن كل الاحتمالات ممكنة في خضم هذه الموجهة، بما في ذلك الحرب، غير أن من المرجح ألا تتوقف الحملة الأميركية ضد طهران عند حدود الكلام الذي يشي بالويل والثبور وعظائم الأمور، لا سيما وأن السياق الراهن ينطوي على مزيدٍ من المناورات السياسية والتهديدات الحربية المتبادلة، واللعب على حافّة الهاوية السحيقة، الأمر الذي يفتح الأبواب أوسع فأوسع أمام كل الممكنات التي ربما لا يشتهيها الطرفان غير المتكافئين في هذه الآونة المبكرة.
وعليه، إذا ما التهبت الجمرات المتقدة تحت الرماد أكثر فأكثر في الفترة القليلة المقبلة، ودنت ساعة الحقيقة المرعبة، فإن من غير المستبعد أن تطوي إيران راية التحدّي، وأن تبلع لسانها في اللحظة ما قبل وقوع الفأس في الرأس، وأن تبدي ما تستطيع من مرونة، بما لها من خبراتٍ براغماتية معترف بها، ومن قدرة في الاستدارة البارعة، ومن تجربةٍ في شرب كأس السم الطافح بالمرارة، نقول إذا احتدم الموقف، فإن من المرجح أن تتراجع طهران، في الدقائق الخمس الأخيرة، كي تتجنب إراقة كثير من ماء الوجه، وتحاشي الارتطام مع الدولة العظمى الوحيدة.
غير أن هذه الاستدارة المتوقعة، من نظام الولي الفقيه، ليست مسألة تفصيلية صغيرة، يمكن التعاطي معها كسحابة صيف عابرة. ذلك أن خسارة المواجهة من دون إطلاق رصاصة واحدة، تستتبعه جملةٌ من الاستحقاقات والتحولات التي من شأنها أن ترغم إيران على إعادة تعريف نفسها، وأن تحملها على إعادة التموضع مجدّداً داخل حدودها، وتبديل جدول أولوياتها، ومن ثم إعادة تقديم أوراق اعتمادها للغرب، دولة غير مارقة، بلا برامج نووية، ولا عقوبات اقتصادية.
شكّل اعتراض الرئيس الأميركي الجديد على الاتفاق النووي بين إيران والغرب نقطة الارتكاز الجوهرية في ما بدا أنه حملة أميركية أشمل على الجمهورية الإسلامية، التي انتزعت في هذا الاتفاق موافقة واشنطن على الاحتفاظ بمنظومةٍ صاروخية وبقاعدة تكنولوجية تمكنها، في وقت لاحق، من تصنيع قنبلةٍ ذرية، فضلاً عن حصولها، في الوقت ذاته، على اعترافٍ ضمني بدور إقليمي مهيمن على أربع عواصم عربية، ناهيك عن التسامح مع تحرّشات البحرية الإيرانية مع الأسطول الأميركي وبعض الدول الخليجية.
كان الاتفاق النووي مع إيران أحد أهم بنود الحملة الدعائية للمرشح الجمهوري القادم من عالم العقارات، حيث تعهد دونالد ترامب بإلغائه، وإن أصبح معاهدة دولية غير قابلة للنقض من جانب واحد، ويتطلب تمزيقه إعادة بناء موقف دولي، يتعذر الآن تحقيقه، الأمر الذي حدا بالإدارة الجديدة إلى نقل مركز ثقل حملتها ضد إيران إلى منصّة أوسع، تتيح لها القفز بسهولةٍ أكبر نحو نقطة اشتباك مريحة، عمادها اتهام إيران برعاية الإرهاب وتصديره، باعتبار أن مثل هذه التهمة هي أكثر التهم رواجاً ومقبوليةً في زمن الحرب ضد هذه الآفة الكريهة.
ومع أن عهد دونالد ترامب في بداياته المبكرة، إلا أن مستشاريه وكبار مساعديه، الممتلئين حنقاً ورغبةً في تسوية الحساب المؤجل مع آيات الله، قد تمكّنوا سريعاً، من استبدال هدف إلغاء
ومن بين كل ما توعد به ترامب، وتعهد بتنفيذه في مجال السياسة الخارجية، تبدو المواجهة المحتملة مع إيران أكثر هذه التعهدات قابلية للتحقق في المدى المنظور، حيث تشير التصريحات المتدفقة على ألسنة أركان الإدارة الجمهورية إلى ارتفاعٍ تدريجي في نبرة التهديدات التي ارتقت، أخيراً، إلى مرتبة الإنذارات والتحذيرات، من مغبة استمرار طهران في تعريض مصالح الولايات المتحدة، ومصالح حلفائها، إلى مخاطر لا يمكن غضّ النظر عنها، على نحو ما كان عليه الحال في عهد إدارة باراك أوباما المتهاونة.
ولعل هذه النبرة الأميركية الحادة، وغير المعهودة منذ وقت طويل، إزاء اختبار طهران صاروخاً بالستياً متوسط المدى، خير دليل على عزم واشنطن تطوير موقفها بصورة دراماتيكية، وقلب ظهر المجن، لدولةٍ لا تكتفي برعاية الإرهاب، والتحرّش بالملاحة الدولية في باب المندب، وتزويد المليشيات الحوثية بأسلحةٍ محظورة، وتقود عدة مليشيات مذهبية في سورية، وإنما تبادر، فوق ذلك كله، إلى خرق التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وتتعمد الإعلان تجربة إطلاق صاروخ، قد يكون مؤهلاً لحمل رأس نووي في المستقبل.
ويبدو أن إدارة الرئيس الأميركي الجديد قد قرأت التجربة الصاروخية الإيرانية، أخيراً، اختباراً لمدى جدية نوايا دونالد ترامب وفريقه المتواترة، بكبح جماح قيادة الحرس الثوري، وتحجيم دور طهران الإقليمي، والحد من تدخلاتها الفظّة في شؤون الشرق الأوسط وشجونه التي لا حصر لها، من دون أن يسقط من البال هدف تأمين مزيد من الحماية لحليف أميركا الأول في المنطقة، إسرائيل المدللة التي اعترضت بشدة على الاتفاق النووي في حينه، من دون أن تنجح، في حملتها، أمام إصرار أوباما على تحقيق إنجازه الأوحد.
السؤال الذي لا ينفك عن طرح نفسه، حتى وقت غير معلوم، هو إلى أين ستمضي مثل هذه
وبعيداً عن المقاربات الرغائبية، والتوقعات المسرفة في الخيال، فإن كل الاحتمالات ممكنة في خضم هذه الموجهة، بما في ذلك الحرب، غير أن من المرجح ألا تتوقف الحملة الأميركية ضد طهران عند حدود الكلام الذي يشي بالويل والثبور وعظائم الأمور، لا سيما وأن السياق الراهن ينطوي على مزيدٍ من المناورات السياسية والتهديدات الحربية المتبادلة، واللعب على حافّة الهاوية السحيقة، الأمر الذي يفتح الأبواب أوسع فأوسع أمام كل الممكنات التي ربما لا يشتهيها الطرفان غير المتكافئين في هذه الآونة المبكرة.
وعليه، إذا ما التهبت الجمرات المتقدة تحت الرماد أكثر فأكثر في الفترة القليلة المقبلة، ودنت ساعة الحقيقة المرعبة، فإن من غير المستبعد أن تطوي إيران راية التحدّي، وأن تبلع لسانها في اللحظة ما قبل وقوع الفأس في الرأس، وأن تبدي ما تستطيع من مرونة، بما لها من خبراتٍ براغماتية معترف بها، ومن قدرة في الاستدارة البارعة، ومن تجربةٍ في شرب كأس السم الطافح بالمرارة، نقول إذا احتدم الموقف، فإن من المرجح أن تتراجع طهران، في الدقائق الخمس الأخيرة، كي تتجنب إراقة كثير من ماء الوجه، وتحاشي الارتطام مع الدولة العظمى الوحيدة.
غير أن هذه الاستدارة المتوقعة، من نظام الولي الفقيه، ليست مسألة تفصيلية صغيرة، يمكن التعاطي معها كسحابة صيف عابرة. ذلك أن خسارة المواجهة من دون إطلاق رصاصة واحدة، تستتبعه جملةٌ من الاستحقاقات والتحولات التي من شأنها أن ترغم إيران على إعادة تعريف نفسها، وأن تحملها على إعادة التموضع مجدّداً داخل حدودها، وتبديل جدول أولوياتها، ومن ثم إعادة تقديم أوراق اعتمادها للغرب، دولة غير مارقة، بلا برامج نووية، ولا عقوبات اقتصادية.
دلالات
مقالات أخرى
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024
08 أكتوبر 2024