تسمح النصوص السردية التي تشكل مادة النقد في مشروع الناقد المغربي سعيد يقطين، بملاحظة عنايته بنصوص كانت خارج مدار الاهتمام، كما هو الحال مثلاً مع سيرة سيف بن ذي يزن أو الحكاية العجيبة، وباقي النصوص التراثية المعروفة.
كشف هذا المسار عن نفسه من خلال مجموعة من دراساته المبكرة ككتابه "الرواية والتراث السردي: من أجل وعي جديد بالتراث" (1992)، وبعده "ذخيرة العجائب العربية: سيف بن ذي يزن" (1994) و"الكلام والخبر: مقدّمة للسرد العربي" (1997) وغيرها.
عن انصرافه إلى النص السردي القديم يبيّن يقطين في حديثه إلى "العربي الجديد" أن "السرد العربي غني ومتنوع. لكن الدرس الأدبي ظل مشدوداً إلى الشعر. وحتى عندما يتم تناول بعض النصوص القصصية كان ينظر إليها في نطاق النثر العربي. لذلك، ومن خلال بحثي في الرواية، ظهر لي أن تخصيص مفهوم جامع لمختلف التجليات القصصية والحكائية العربية تحت اسم "السرد" يمكن أن يعطي رؤية جديدة لجنس عربي أصيل، ساهم فيه العرب بقسط وافر. ويكفي ذكر الليالي العربية للدلالة على ذلك".
انصراف يقطين إلى السيرة الشعبية العربية يحقق غايتين، وفقاً لما يقول، وهما "لفت الانتباه إلى المهمل من النصوص، ومحاولة كشف سحرها، إضافة إلى إعادة النظر في الأجناس الأدبية التي ظلّت عندنا مختزلة في التصوّر الأرسطي. وفي إطار ذلك تبيّن لي أن السرد العربي (الخبر) يحتل موقعاً مهما في "الكلام" العربي. بل وسمحت لي إعادة النظر في الأجناس العربية بالذهاب إلى أن السرد يحتل مكانة هامة في الشعر الذي ظل يُنظر إليه على أنه "غنائي". ولقد نجم عن إعادة النظر هذه إبراز صوت ثقافي آخر كان يزاحم الشاعر هو الراوي. ومن دون هذين الصوتين في ترابطهما لا يمكننا الحديث عن الأدب العربي. لذلك أعتبر "السرد" ديواناً آخر مارسه العرب، وهو لا يقل أهمية عن الشعر الذي ظل يُعتبر الديوان الوحيد المعترف به لعدة قرون".
لم يكن النص السردي القديم، هو الوجهة الوحيدة لدى يقطين، فالرواية حاضرة أيضاً، من خلال أولى أبحاثه المنشورة التي سبقت اهتمامه بالتراث: "القراءة والتجربة.. حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد في المغرب" (1985)، ثم "انفتاح النص الروائي.. النص والسياق" (1989) وغيرهما من الأبحاث والمقالات.
عن ذلك يقول إن "الرواية العربية حديثة بالقياس إلى أنواع أخرى سردية مارسها العرب منذ القدم. ولم تبدأ في فرض نفسها لتصبح ديوان العرب الجديد إلا بعد أن انفتحت على السرد العربي القديم، فاستفادت منه على مستوى الموضوعات والتقنيات. وكلما تطورت الدراسات السردية العربية بالاشتغال على النصوص غير المتناولة، واستفاد الروائي العربي من المتن السردي العربي في غناه وتنوعه، يمكن للرواية العربية أن تتطور أكثر، ولنا في نماذج كثيرة من الرواية الأميركية الجنوبية خير مثال. لقد استفادت هذه الرواية من السرد العربي القديم، وساهم ذلك في تميزها".
ويرى يقطين أن الرواية العربية الآن "تشهد اهتماماً متزايداً من الكتّاب والناشرين والجوائز. ويمكن أن يشكل هذا عاملاً مطمئناً على مستقبلها. لكن من دون عمل الروائيين على تطوير تجاربهم بالاستفادة من التجارب السردية العربية القديمة، والانفتاح على النصوص الروائية العالمية، وتطور الدرس السردي العربي، والتعامل مع الواقع العربي بطريقة دينامية، لا يمكننا سوى الحديث عن تراكم كمّي. إن التحول الكمّي الذي تعرفه الرواية في العديد من الأقطار العربية غير قادر على التحوّل إلى كيفٍ يضع الرواية العربية في المقام الذي ينبغي أن تحتله على المستوى العالمي".
ويعزو ذلك إلى تعقد الأوضاع والقضايا التي تشغل الإنسان العربي، "فما زال الروائي العربي غير قادر على تجديد رؤيته إلى هذا الواقع وتقديمه بكيفية متطورة. والرواية من أقدر الأنواع السردية على تطوير الوعي بالواقع العربي، وتمثيله بكيفية تستدعي التجديد والبحث وإعادة النظر".
ما يلفت الانتباه في مشروع يقطين هو الانتقال في السنوات الأخيرة إلى دراسة النص الأدبي وعلاقته بوسائط جديدة كالحاسوب والإمكانات التي تقدمها التكنولوجيا من خلال كتابيه "من النص إلى النص المترابط"، و"النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية".
هذا التحول بحسب صاحب "قال الراوي": "يؤكد أن السرد موجود أبداً، وهو متعال على الزمان والمكان. لذلك ابتدأت بالاهتمام بالرواية المعاصرة، ثم انتقلت إلى السرد العربي القديم، وظهرت لي ضرورة الانفتاح على سرد المستقبل الذي يتحقق باستخدام الوسائط المتفاعلة. هذه المراوحة في الزمان والوسائط تكشف لنا بجلاء أن الوعي بالأشكال والتقنيات على المستوى النظري والتحليلي مهم لتطوير النظرية السردية العربية، من دون ذلك لا يمكننا تطوير ممارستنا السردية العربية بجعلها مفتوحة على التاريخ والواقع والمستقبل عبر استثمار مختلف الوسائط".
يلفت يقطين إلى أن الرواية سليلة السرد الشفاهي. ومن خلال استفادتها منه، تستثمر التجربة السردية في عمقها التاريخي. كما أنها في الوقت نفسه، في انفتاحها على المستقبل من خلال التعامل مع الوسائط الجديدة تطور إمكاناتها لتصل الماضي بالمستقبل. "ألا ترى الآن العديد من التجارب السردية المعاصرة تنقل عوالم الأساطير القديمة لتضعها في نطاق عوالم مستقبلية تتصل بغزو الفضاء، وتوظيف تكنولوجيا جديدة، بدل الكائنات "الخرافية" العتيقة. ونحن ما نزال في روايتنا عاجزين عن تطوير عوالمنا السردية التي تزخر بها الليالي والسير الشعبية وحكايات الأولياء والصالحين، لتصبح مجالات للاشتغال في رواية المستقبل".
من هنا، لا بد للدراسات السردية أن تنفتح على علامات متعددة يشتغل بها السرد، مثل الصورة والحركة. و"أن تكون قادرة على تحليل السرد حيثما وجد، بغض النظر عن علامات تحققه. ولعل هذا يسهم في جعل الدراسات السردية ترتبط بمختلف الإنتاجات التي تتضمن السرد مثل السينما والمسرح وألعاب الفيديو، وكل الإنتاجات التي تستعمل اللغة إما من خلال الكتاب أو الحاسوب أو في الفضاء الشبكي أو عبر وسائل الاتصال الجماهيري. ومع تطور الوسائط تغيّر مفهوم "الأديب"، والكاتب، كما تغيّر مفهوم "الأدب". لعل هذا من الأسباب التي جعلت الدراسات السردية تتطور بالمقارنة مع غيرها من الدراسات الأدبية. لذلك لا بد للنقد أن يتطور بدوره ليلامس مختلف هذه الإنتاجات أياً كانت علاماتها ووسائطها، لينفتح على ما هو لغوي وصوري، وأدبي وغير أدبي، وبذلك تصبح له وظيفة جديدة تتلاءم مع تطور النصوص، ومع تبدل أشكال الإنتاج وصوره. وبذلك يمكنه أن يلعب دوراً جديداً في الحياة".