سطوة الروح

07 ديسمبر 2015
لوحة للفنان إدغار دوغا (Getty)
+ الخط -
كان اعتقادي على الدوام أنّه سيعيش طويلاً. كنت أقول في سرّي: "هو يشبه والده الذي تجاوز السادسة والثمانين، ولا بدّ أن يتخطّى هو التسعين، ويصل ربما إلى المئة عام". كان شعوري أنّه عصيّ ، في صورةٍ ما، على الأمراض. وأنّ الجراثيم الآثمة لن تجد منفذاً إلى جسده الممشوق، الناحل، المتين، الذي أساسه العصَب. وأنّ كبرياء ذاته، وروحه الكثيرة العمق والتشعّب، البالغة الغنى، يحيطانه بهالة سريّة ويحميانه.

كان ذلك وهماً بحتاً؟ في أيّ حال، لست الواهم الوحيد. وبعضُ عزائي أن دوستويفسكي، ذلك الرائي الكبير، كان واهماً، مثلي، هو أيضاً، ولو حول نفسه. كتب، حين وصل إلى الستين، أنه سيعيش طويلاً، وسيؤلّف كثيراً. لكن ما لبث أن وافاه الأجل، بعد حين.

كنّا تحدّثنا مراراً عن دوستويفسكي، الذي كان يحبّه كثيراً. بعد غياب أحدنا عن الآخر نحو أربع سنين، التقينا. شعرتُ كأننا كنّا معاً قبل قليل، ولم يكن من غياب. أدركتُ بعضَ السبب بعد أيّام، حين جمعتنا سهرة مع أصدقاء آخرين اختارهم هو، في بيت أحدهم، على مقربة من بيروت، كأنّه يودّ وداعهم. بين الكثير ممّا سمعته تلك الليلة، بقي في ذاكرتي قولٌ له إنّ علاقته بالغياب جدّ خاصة، ويكفي أن يفكّر في شخص ما حتى يشعر أنّه رآه والتقاه.

اقرأ أيضًا: عن ملاجئ الروح

التقينا مراراً عديدة في الأشهر الأخيرة من حياته. عرفت ُ عنه، في تلك الفترة الوجيزة من الزمن، أكثر ممّا عرفته على مدى صداقتنا الطويلة، في الإقامة، كما في الهجرة. عرفتُ، خصوصاً، أمراً واحداً: لم يتغيّر فيه أيّ ملمح، أيّ معلَم، لا في شكله ولا في نفسه ولا في تصرّفه، ولا في علاقة أحدنا بالآخر. ليس فقط مذ التقينا، المرّة الأولى، في مدينة السين، قبل زمن بعيد، بل اليوم أيضاً، وهو في ما هو فيه. لا يبارحني قطّ هذا التساؤل الكبير: كيف رجل يحمل في جسده ذلك الشيء، يمكنه أن يكون هو نفسه كاملاً بلا نقصان، بوهجه، وهدوئه، وغناه الداخلي، وقوّة حضوره، وعمق نظرته، وسرعة ملاحظته ودقّتها، وسعة أفقه، وذاكرته التي لا تُحَدّ، وكثرة اهتماماته الوجودية والثقافية، وإصغائه الأمثل، وحيويته، ونزقه، وظرفه، ومرحه، ومودّته، وشغفه؟

كيف لرجلٍ يحمل في جسده ذلك الشيء، أن يُعيد قراءة أعمال فيكتور هوغو الكاملة، كما فعل في تلك الأشهر الأخيرة، لأنّه كان يعتقد أنّ الفرنسيين يقدّرون هوغو أكثر مّما يستحقّ، ولأنّه يريد التأكّد من صحة رأيه. فوجد أنّه لم يكن مُحقّاً في رأيه، وأن هوغو يستحقّ فعلاً هذا التقدير. من تُرى يفعل ذلك، في أكثر الأوقات صفاءً، وهناءً، وراحةً في حياته؟ بل أيّ من الاختصاصيين في الأدب الرومنطيقي يفعل ذلك؟ وهو مثلٌ واحد من أمثلة كثيرة عن اهتماماته في تلك المرحلة الأخيرة.

اقرأ أيضًا: عن احتضار الأدب الكبير

كان في موقفه من ذلك الشيء الذي في جسده، حالٌ من الانتصار البشري الهائل، الباهر: انتصارُ الإنسان على الحيوان، وانتصار الروح على الجسد، وانتصار الوعي الرائي على عمى العناصر. استعلاءٌ أرستقراطي رفيع، نبيل، مطلق، للروح، الحاوية في ثناياها الوعي والكون، على الجسد. هو يعلم، من دون أن يقول ذلك، أنّ الجسد هو نقطة ضعفنا الكبرى، هو عقب أخيل، الذي تأتي منه الإصابة. وهو يزدري في سرّه ذلك الشيء الذي في جسده، لأنّه يدرك أنّه يكفي ما هو أقلّ منه بكثير لإصابة تقتل: رصاصة صغيرة بائسة، شظيّة سخيفة هوجاء، ثانية من عدم الانتباه أو النعاس، على طريق فرعي، زلّة قدم... فلمَ الاكتراث بذلك الشيء الأعمى؟ المشكلة هي في الجسد، وليست في ذلك الشيء.

وهو لم يكن في حاجة إلى صورة "القصبة المفكِّرة"، التي يجمع فيها بليز باسكال هشاشة الإنسان وعظمته الرهيبتين، وأنّه حين تسحق الطبيعة الإنسان، يكون الإنسان أعظم منها بما لا يُقاس، لسببٍ واحد: هو يعرف أنه ينسحق، وهي لا تعرف شيئاً. كان يحملُ موقفُه، في صورة تلقائية، هذه المعرفة. مع هذا الفارق الكبير: لم يكن لديه شعورٌ بالانسحاق قطّ. على العكس من ذلك، كان يُدرِكُ الناظرُ إليه أن لديه، في أعماقه، شعوراً قويّاً، أكيداً، بالغ الوضوح، باستمرارية حياته. ليس بمعنى الاستمرارية الأدبية في الزمان، أو بالمعنى الدينيّ للكلمة، كلا. بل هو شعور سرّي، غريب، يصعب وصفه. كأنه يكفي أن يملك الإنسان، ولو ليوم، ولو لساعة، ولو لدقيقة، هذا الوعي الذي هو وعيه، حتى يضمن الأبدية.
في هذه السطوة الرائعة، سطوةِ الروح على الجسد، يكمن شبابه الأبدي، ويرتسم سرّه، وسحره، وبقاؤه.
المساهمون