سجين سياسي سابق: مشهد يستعد لتكرار نفسه

06 فبراير 2017
"اجتياز الحد"، نادية كعبي، 2015
+ الخط -

ملأ "السجين السياسي السابق" ثنايا المجتمع السوري بعد "التصحيح"، ولا سيما بعد أن استنفد نظام التصحيح زخمه الأوّلي ودخل في مواجهة عنيفة مع المجتمع في بداية عقده الثاني. صار تعبير "سجين سابق" حاضراً ومكرساً وذا صدى في ذهن السوريين، وحفر له مكاناً مستقلاً في وعيهم.

على مدى عقود كانت مصانع الولاء السورية تشتغل بطاقة قصوى، لإنتاج أمثال هؤلاء. معالجة حثيثة ومتأنية للخارجين على الطريق "الطريقة". معالجة لمن هم ليسوا سوى حسّاد طامعين بما لغيرهم، أو عملاء في خدمة طامعين، أو مضللين أو جاحدين ..الخ. غير أن مصانع الولاء هذه، اضطرت ذات يوم ورغم كل شيء، للعلاج بالكي. فاستعانت بمدافع ودبابات لتمهيد مدينة أو أكثر عمرانياً وسكانياً، وتهيئتها جيداً لزرع نبتة الوفاء الدائم.

بعد ذلك زادت هذه المصانع من جرعة العلاج بالسنوات، وفتحت الباب أمام تكثيف ما تبقى من سنوات عمر منكوبيها برصاصة مثلاً أو بحبل مشنقة أو بما تيسر من وسائل أقل رسمية وتكلفة.

لكن هذه المصانع لم تصل، ينبغي القول، إلى حد الطعن في السلامة العقلية لمنكوبيها ولم تتخل عنهم، بالتالي، للمصحّات العقلية أسوة بأخوة كبار لها. وعلى هذا راحت هذه المصانع تحسّن من إنتاج "بضاعتها". بشر مسروقو العمر، معزولون، مفككو الروابط، منبوذون، مطعونون في أرواحهم، يُرمون إلى الخارج فقط كي تبدأ محاربتهم.

يمشي هؤلاء السجناء السابقون مهزومين تحت ثقل خيبة "الواثب الذي لم يغلب"، هدفاً سهلاً لكل المشاعر الكلبية التي تزدهر في مجتمع أنهكته "الدولة" حتى استسلم لها. يخرج "السجين السابق" إلى هذا المجتمع لكي يرى إحباطه في العيون التي حوله. حاله كحال تلك المرأة العجوز، في رواية ترومان كابوتي "بدم بارد"، التي يحاول اللص تخليصها من حقيبتها في مكان معزول، وحين تلمح شخصاً تستغيث به وتطلب مساعدته، فيقول لها إنه هنا لكي يساعد اللص وليس لكي يساعدها.

"طلاب سلطة وليسوا طلاب حق عام"، "هذه أنانية في لباس الغيرية". عبر هذا الباب الجاهز دائماً مثل مخرج الطوارئ، كان يهرّب السوريون المغلوبون مشاعر مسؤولياتهم العامة، ويتخلصون منها، ويرتاحون على بؤسهم. هم ليسوا أقل شجاعة وليسوا أقل إدراكاً من هؤلاء "السجناء السابقين"، إنهم فقط أقل أنانية. قليلون من قاوموا إغراء الخروج الآمن، ولكن الذليل، من هذا الباب الواسع.

يحمل السجناء السوريون السابقون في نفوسهم شيئاً شبيهاً برماد حريق بات ملعوناً حين انطفأ. يعيشون كأنهم مشوهو حرب خاسرة يمنّ عليهم المنتصر بالحياة، ليس لأنه كريم النفس، بل لأنه يريدهم أن يبقوا مثل آثار الجدري على الوجه، تشوهات صغيرة باردة ومسالمة، تذكّر بخطر قديم تمّ تجاوزه كما يجب. تمر بك "الأخطار" كلمى هزيمة! هذا هو مصير من لا "يرعوي" ويصبح "رعية". هكذا يستعرض "المنتصر" مهزوميه أمام مجتمع أخذ الهزيمة إلى نفسه استسلاماً، دون قتال.

ما حدث هو أن السجين السابق وجد مخرجاً وسط هذا الجو في إنشاء وهم أو عزلة نفسية تحميه، تحمي توازنه الشخصي واستقراره المعنوي. كان من السهل عليه أن يتعالى على مجتمع "فاسد وجاهل"، وأن ينظر إلى نفسه كبطل وكضحية في الوقت نفسه. يتفاخر ويسعى إلى استمداد قوة معنوية من ماضيه الذي يرفعه إلى مستوى بطولي، وفي الوقت نفسه يشكو ويوسع دائرة المتهمين والمسؤولين عن "مظلمته" حتى تشمل المجتمع. وفي الحالتين يبتعد عن محيطه أكثر، ولا سيما محيطه العام الذي ليس نادراً أن تتدنى محاكمته إلى مستوى القول: "لو أن هذا الشخص في موقع مسؤولية لكان أسوأ من غيره".

سجناء آخرون، استجابوا لهذا "الفشل العام" بالسعي وراء نجاح شخصي ولا سيما منهم من يمتلك القدرات الذهنية والشخصية لذلك. نجاح دراسي (وإن متأخراً)، أو نجاح عملي في مشاريع خاصة تتطلب الكثير من الجهد والتفرغ والموهبة. غير أن هذه النجاحات، حين تتحقّق، هي في الوقت نفسه إقرار بفشل عام، وفشل شخصي أيضاً، بقدر ما يمكن اعتبار أن سجين الرأي يدفع ثمناً شخصياً في خدمة قضية عامة. وهذا يجعل شعور السجين السابق محجوزاً دائماً خارج الرضى، بما يشبه اللعنة المصرية.

ومن السجناء السابقين من بقي في مخزونه الشخصي ما يدعم الاستمرار في العمل العام مواصلاً البحث عن القيمة المعنوية والرضى الذاتي ضمن النمط السابق نفسه، الذي تحطم لاحقاً وتبينت محدوديته. ولكن هناك عدد غير قليل ممن عجزوا عن التعايش والمواكبة وصاروا حطاماً بالدلالة الكاملة للكلمة، وكأنهم الصورة الملموسة لروح مجتمعهم.

شيء من هذا يستعد كي يكرر نفسه في حياة السوريين مرة أخرى. فيضاف إلى السجين السابق، "مقاتل سابق"، "قائد كتيبة سابق"، "شرعي سابق" ..الخ. مع فارق بارز، هو أن الأمر احتاج في المرة الأولى إلى إخضاع المجتمع، ولكنه هذه المرة احتاج إلى تدمير المجتمع. وليس لمنتصر في مجتمع مدمر أن يستعرض مهزوميه.

المساهمون