سجال التناوب السياسي في المغرب
مازالت تجربة التناوب السياسي في المغرب، التي قادها اليساري، عبد الرحمن اليوسفي، بين 1998و2002، بعد توافق مع الملك الراحل الحسن الثاني، تثير الجدل، وتطرح مزيداً من الأسئلة المربكة، خصوصاً فيما يتعلق بطبيعة ولادتها، والأجندة التي رسمت لها، والأهداف التي سعت إليها، وجيوب المقاومة التي واجهتها. وهذا ما عاود طرحه كتاب صدر حديثاً في المغرب (التناوب الديمقراطي المجهض)، للصحافي، محمد الطائع، حيث استثمر محمد بوستة، الوجه التاريخي، والأمين العام السابق لحزب الاستقلال، المناسبة، ليكشف عن جزء من أسرار التحضير لحكومة التناوب السياسي في المغرب، وليحمل اليوسفي جزءاً من المسؤولية في انحراف هذه التجربة عن مسارها، عندما أفرط اليوسفي في حسن النية، حسب قول بوستة، كونه تأثر بكلام الراحل الحسن الثاني، عن الوطن وعن السكتة القلبية، وصدّقه، بينما كان عليه أن يقول "لا" في أوقات كان يجب عليه قولها.
وانتقد بوستة، الذي شغل، أيضاً، منصب وزير الخارجية، استقالة اليوسفي من السياسة، رد فعل على إبعاده من الحكومة سنة 2002، في وقت كان عليه أن يقيم "ضجة"، حسب تعبيره، في سياق ما وصفه اليوسفي نفسه، آنذاك، الانقلاب على المنهجية الديمقراطية. غير أن الشحنة المعنوية التي ضخها حدث تنصيب حكومة التناوب التوافقي في نفوس مغاربةٍ كثيرين، عام 1998، شكلت بارقة أمل، ونظر إلى الحدث، باعتباره إمكانية سياسية لفتح البلاد على مصراعيها أمام مسيرة البناء الديمقراطي والإصلاح المؤسساتي والانتعاش الاقتصادي، وهذا الشعور غذّته، بكيفية ملموسة، موجة الحماس التي تدفقت، بقوة، في كل الاتجاهات، وتجاوب معها المجتمع، من منطلق أن تلك المرحلة الوليدة كانت ستؤسس لقطيعة فعليةٍ، مع أصناف وأنماط مرفوضة ومبتذلة، من الممارسة السياسية التي زجت بالمغرب في متاهة مظلمةٍ، من إهدار الفرص، ما حال دون اللحاق بركب التقدم والتنمية المتوازنة، كما أن هذا الشعور كرسته، بشكل نسبي، وسائل الإعلام المغربية والدولية التي باركت تجربة التناوب التوافقي، واعتبرتها إجراءً عمليّاً لإنقاذ البلاد من مأساة "السكتة القلبية" التي كان الحسن الثاني قد استعملها في قاموسه، ليختزل ويكثف الوضع المزمن الذي وصلت إليه البلاد، وهو العارف، آنذاك، بخبايا الأمور.
أي مقارنة بين حكومة التناوب التي قادها عبد الرحمن اليوسفي والحكومة الحالية التي يقودها حزب العدالة والتنمية، برئاسة عبد الإله بن كيران، والتي لم تكتمل ولايتها، لن تكون لها فاعلية كبرى، نظراً لاختلاف السياق التاريخي والظرفية السياسية والترسانة الدستورية والقانونية لكلتا التجربتين، ما يحتم وضع حدث التناوب التوافقي في السياق السياسي والاجتماعي والنفسي العام، علماً أن الحكم في المغرب لم يكن مستعداً لأسباب متعددة، لإشراك فاعلين من طينة اليسار في تدبير الشؤون العامة، والذين كانوا يعارضونه.
تأسيساً على هذه العناصر، انخرط الشارع في عملية تأييد كبرى لتجربة التناوب السياسي، سواء تم ذلك بصورة عفوية وحسية، أو بصورة واعية. ولا يمكن تجاهل ترديد عبد الرحمن اليوسفي، في أكثر من مناسبة، ما كان يسميها جيوب المقاومة التي أعلنت حالة استنفار قصوى، وحشدت أنصارها ضد تجربة التناوب، لأنها لمست فيها معولاً سيهدم ما ثبتته من امتيازات، وما راكمته من ثروات، وأي استكانة أو خمود من طرفها سيفقدها مواقعها وقلاعها التي حصنتها ورعتها، كما كانت تذهب إلى ذلك مواقف وآراء سياسية وإعلامية عديدة دافعت عن تجربة التناوب، ووقفت في وجه ما يصطلح على تسميتها أنصار الحرس القديم.
وقد أحدث توظيف جيوب المقاومة، من دون تحديدها وتعيينها، جواً من الغموض والالتباس، وربما سحب البساط من تحت أقدام حكومة التناوب التوافقي التي احتمت بذلك التوصيف والتوظيف، ردحاً من الزمن، لتبرير عجزها في تحقيق وعودٍ قطعتها على نفسها، بدءاً بالبيان الحكومي في البرلمان، عام 1998، والذي اعتبر تعاقداً سياسيّاً مع الشارع. والأخير، نظراً لتركيبته غير المتجانسة، ودرجة تسيسه غير المنهجية والمتدنية، لم يكن، في استطاعته، أن يطرح الأسئلة الجذرية التي تتجه، رأساً، صوب الهامش الدستوري المتاح للحكومة، لتتخذ القرارات الجريئة والمجدية، ما دفع جزءاً منه إلى سحب تأييده تجربة التناوب، لأنه، ببساطة، كان ينتظر تغييراتٍ على الأرض، تقنعه بأهمية القيمة المضافة للتجربة نفسها، وعندما وجد أن الإدارات لم يمسّها الإصلاح، وأن المؤسسات ظلت تحكمها العقليات نفسها، وأن الرشوة والمحسوبية بقيتا متفشيتين. عندما صدم قطاع عريض من المغاربة بهذا المشهد، أيقن أن الأمر لا يتعلق بتناوب سياسي حقيقي، وإنما بلحظة سياسية أعيد فيها ترتيب صناعة القرار، لتأمين شروط إجماع وطني جديد، وإعادة هيكلة السلم الاجتماعي، بناء على مفاهيم منقحة ومكيفة، حسب متطلبات العهد الجديد.
الملاحظ أنه عادة ما كان يصاب أنصار حكومة "التناوب" بنوبة من الغضب، عندما كان يقال لهم، إن الإنجازات التي تحققت على عهد حكومتهم لا ترقى إلى مستوى انتظارات الشارع، ولرد هذا الاتهام، كان يتسلح هؤلاء الأنصار بترسانةٍ من الذرائع، في مقدمها ما كان يعرف بـ"الإرث الفاسد والثقيل" الذي ورثته عن الحكومات السابقة، لكنهم، مع ذلك، كانوا يصرفون النظر عن مسالك متعددة، كان في وسع حكومة عبد الرحمن اليوسفي أن تسلكها، لتوطد وترسخ الأمل والثقة في الناس، من قبيل اتخاذ إجراءات عقابية ضد الذين عاثوا في المغرب فساداً، وضد الذين سرقوا المال العام، وعرضوا المقاولات التابعة للدولة إلى الإفلاس، بعد نهبها. لو قررت الحكومة اتباع هذا النهج، وراهنت على هذا الخيار، وألحت على إعادة الأموال المختلسة إلى خزينة الدولة، لكسبت عطف الشارع ومساندته، مائة في المائة، لكنها، وعلى ما يبدو، فضلت المهادنة وضبط النفس، تحت طائلة عدم إثارة الفتنة، وبتبريراتٍ غير منطقية، أحياناً، مفادها أن المغرب يجتاز مرحلة دقيقة، ويواجه خصوماً في جبهات مختلفة، وعين العقل، حسب تعليلهم، كانت تقتضي التحلي بفضيلة التسامح، ولا سيما وأن صدر المغرب واسع ورحب، وهو الخطاب نفسه الذي تداولته الحكومة الحالية إبان تنصيبها.
أكيد أن السياق الذي انبثقت فيه حكومة التناوب التوافقي لعبت فيه عوامل دستورية ومؤسساتية واقتصادية واجتماعية وإعلامية، لكن العمليات الجراحية التي أجرتها الحكومة، وخصوصاً على مستوى تخليق الحياة العامة، وإصدار قوانين ومدونات ذات طابع اجتماعي واقتصادي وحقوقي، لم تسوق إعلاميّاً وسياسيّاً، وشكل هكذا التواصل مع الجماهير إحدى نقاط الضعف الكبرى التي قللت من مصداقية نيات الحكومة وخطابها. وإذا كان من المفروض أن تعكس وسائل الإعلام العمومية مضمون العقد السياسي الجديد، ورهانات التناوب وقيمه الناهدة إلى الحداثة والعقلانية والكفاءة والنزاهة والإنتاجية، فإن هذه الوسائل انفلتت من يد الحكومة، ما يدل على أن الواجهة الاستراتيجية والحيوية التي كان على الحكومة أن تتملكها ضاعت منها، وتبعاً لذلك، ضاعت إمكانية الوصول إلى الجماهير، وتوصيل عدد من الرسائل.
ما حدث لتجربة التناوب ينسحب عليه ما قاله المفكر المغربي عبد الله العروي "نحن ليبراليون، لكن لا نريد أن نذهب إلى أقصى الليبرالية". هذا الكلام يختزل في عمقه الرؤية المبتورة والانتقائية التي تبناها المغرب الرسمي في التعاطي مع الليبرالية، وغيرها من الاختيارات والتوجهات.