ستيفن هوكينغ والدولة العربية

17 مارس 2018

هوكينغ: الدولة الاستبدادية ثقب أسود يبتلع كل شيء (12/4/2016/Getty)

+ الخط -
في عام 2004، خسر الفيزيائي البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ (توفي الأسبوع الجاري) رهاناً مع صديقه جون بريسكل، من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك). كان موضوع الرهان هو ما إذا كانت "الثقوب السوداء" (نجوم منطفئة، كثيفة المادة، غلابة الجاذبية، لا ينفذ الضوء من نطاق جاذبيتها) قادرةً على تدمير المعلومات المضمنة في الأجسام التي تلتهمها. وهذا الأمر يخالف، إذا ما وقع، مبادئ علم الميكانيكا الكمية وافتراضاته. وكان صديقهما الثالث نيك ثورن، زميل بريكسيل في "كالتيك"، انضم إلى هوكينغ ضد بريسكيل في الرهان الذي عقد في عام 1997، إلا أن نتائج الأبحاث اضطرت العالميْن إلى الاعتراف بخطئهما، واشترى هوكينغ موسوعة لبريسكيل وفاءً بالرهان.
في ذلك العام نفسه، استعرنا مفهوم "الثقب الأسود" الذي أثراه هوكينغ بتنظيره المتعمق، لوصف الدولة العربية الاستبدادية المعاصرة في تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي أعد حينها، بعنوان "نحو الحرية في العالم العربي". ويشير المفهوم، في أصله، إلى وجود نجوم منطفئة تتكور على نفسها، حتى تبلغ كثافة المادة فيها حداً يجعل جاذبيتها من القوة، بحيث لا ينفذ من إطار جاذبيتها أي شيء، بما في ذلك الضوء. ولأن هذه النجوم تلتهم بقوة جاذبيتها كل ما حولها، فإن كثافتها تزداد، ومعها قوة جاذبيتها، حتى لا تسمح لشيء بالحركة في محيطها.
وقد بدا لنا هذا وصفاً مجازياً مناسباً لطبيعة الدولة العربية التي سادت وتشابهت في الشكل 
والمضمون، بحيث تكوّرت على نفسها وانغلقت، خصوصا في "الجملوكيات"، فقد أخذت هذه الجمهوريات تتحول إلى دولة الحزب الواحد، ثم دولة الطائفة/ القبيلة، فالعشيرة، ثم الأسرة الصغيرة، ثم الفرد. وفي كل واحدٍ من هذه الأطوار، كانت تعزل نفسها أكثر، وتغلق الفضاء العام، بحيث لا تسمح بأي تحرك مدني أو سياسي. حتى الاقتصاد يكبت ويجير لصالح منظومة الثقب الأسود.
لم يكن من المفيد، في إطار الاستخدام المجازي للمفهوم، الدخول في تفصيلات التعقيدات والإضافات التي أدخلها هوكينغ عليه، وحاز شهرته على أساسها. فقد سعى إلى إثبات أن الثقوب السوداء لم تكن "سوداء" بالكامل، وأنها تصدر إشعاعاً على شكل جزيئاتٍ افتراضيةٍ (سميت "إشعاع هوكينغ"). وقد ظل يطور هذا المفهوم حتى آخر أيامه، كما ظهر من ورقة نشرها مع زميل له عام 2016. مهما يكن، فإن الاستعارة كان فيها بعض التصرّف، حيث اشتملت على فرضية أن تمادي انكماش دولة الثقب الأسود العربية قد يؤدي إلى انفجار مدمر يخلف واقعاً جديداً.
يبقى ستيفن هوكينغ نفسه، وعلى الرغم من توجهاته الإلحادية، آيةً من آيات السماء، فقد أصيب، وهو في الواحدة والعشرين من عمره، بمرض ضمورالعضلات المتزايد، وقدر الأطباء أن لن يعيش أكثر من عامين. وبالفعل، أصبح الرجل مقعداً، وفقد كل قدرة على الحركة والنطق، وأصبح يتنقل عبر مقعد متحرك، واحتاج رعاية طبية على مدار الساعة. ولكنه مع ذلك ظل متقد الذهن، وبقي يتواصل، عبر جهاز كمبيوتر، يفسر بعض حركات جسمه، خصوصا الخد والوجه، لاختيار كلمات وجمل يحولها الكمبيوتر إلى كلام عبر برامج صممت خصيصاً لذلك. وقد عاش الرجل حتى بلغ السادسة والسبعين، وتزوج للمرة الثانية في مطلع التسعينيات من ممرضته، بعد أن فارق زوجته وأم أولاده الثلاثة الوفية، التي تزوجته عندما بدأت أعراض المرض تظهر عليه، بقيت معه خلال أصعب السنوات، وقبل أن ينال الشهرة والمال. وفي عام 2006، طلق زوجته الجديدة، وتحسّنت علاقته مرة أخرى مع أسرته الأصلية.
ولعلها مفارقة أن زواجه الثاني جاء وهو في الخمسين من عمره، أي بعد قرابة ثلاثين سنة من موعد موته المفترض بحسب الأطباء، مما كان يجب أن يذكّره بمحدودية العلم، وقدرة الله التي لا تحكمها تقديرات البشر. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أحد أسباب فشل زواجه الأول كان عدم رضا زوجته المتدينة عن توجهاته الإلحادية. هذا على الرغم من أنه كان يستخدم عبارات دينية بصورة مجازية، كما في العبارة الشهيرة التي ختم بها كتابه الأشهر، "مختصر تاريخ الزمن" (1988). وقد جاء في العبارة أن التوصل إلى نظرية شاملة للكون تجعل منا شركاء في العلم الإلهي.
من جهة أخرى، يذكّر تشبيه الدولة الاستبدادية بالثقب الأسود بتحولها إلى نقيض دورها الطبيعي، تماماً كما أن النجم المنطفئ يتحول إلى بؤرة ظلام وتدمير، بدلاً من مصدر إشعاع وطاقة. كذلك تفقد الدولة التي تتحول إلى عزبة خاصة للدكتاتور دورها حارسا للمصلحة العامة، وممثلة لإرادة الأمة، ومفجرة وموجهة لطاقات المجتمع نحو البناء والخلق، وحاسمة للنزاعات، بما يخدم ويرضي الجميع. وبينما نجد الشمس تمنح، بإذن الله وقدرته، الضوء والدفء لكوكبنا، وتضبط حركة الكواكب في مدارات معلومة، متحكمة بذلك في الفصول والمناخ، فإن تحولها إلى ثقب أسود يعني نهاية الحياة على كوكبنا، بل ونهاية الكوكب والمجموعة.
كذلك تتحول دولة الثقب الأسود، في شراستها وشراهتها، إلى مصدر للموت لا للحياة، وللنهب 
لا العطاء، وللتدمير والتهجير، بدلاً من إيجاد بيئة الازدهار والأمن. والنتيجة هي إما أن تنطفئ الحياة تماماً في البلد المعني، فيصبح البلد بكامله مواتاً لا حراك فيه، أو أن الحياة الغلابة ستكتسح مثل هذه الهياكل التي لا استمرارية للحياة معها. ولنا في نماذج الدول الشمولية التي علا شأنها، وعظم جبروتها، مثل ألمانيا النازية وروسيا البلشفية وتوابعها، آيات لقوم يعلمون. فقد انهارت كلها حيث دمرت نفسها، وسعت إلى تدمير من حولها، قبل أن يأتيها قدرها المحتوم. ولعل أبلغ العبر في ذلك كانت ألمانيا الشرقية التي كادت تفرغ من سكانها في أيام معدودات، قبل أن تستسلم لقدرها، وهي تشهد جدارها الذي شيدته للكبت والخنق، وهو يدمر بأيدي عين من أرادت قهرهم وخنقهم. ونظيرها هي سورية اليوم التي أفرغ نظامها البلد من سكانه تقتيلاً وتهجيراً، ودمر الحجر والمدر، وأهلك الزرع والضرع، وخلق أجيالاً كاملة من اليتامى والمشردين والمحملين بالضغائن. ولا بقاء لنظامٍ بهذه الملامح مع إرادة الحياة الغلابة التي لا بد أن يكتسحه تيارها الهادر، ما لم يأذن الله بقيام الساعة وانقراض الحياة على الأرض. وهو سيزول عندها أيضاً. فهو إما أن يزول أو أن يزول.
دلالات
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي