ستيفن هوكينغ.. وأزمة الهوية العربية

18 مارس 2018
+ الخط -
أدت وفاة عالم الفيزياء البريطاني الشهير، ستيفن هوكينغ، إلى إشعال السجال والنقاش على مواقع التواصل الاجتماعي في الأردن، ودول عربية عديدة، بين مؤبّن وناعٍ وحزين على وفاة هذا العالم الاستثنائي، من التيارات العلمانية والليبرالية واليسارية، وناقد وشامت مهاجم له ولرؤيته العلمية للكون، وموقفه من وجود الله، من النخبة الإسلامية المحافظة (هنالك إسلاميون نعوه وترحّموا عليه).
تجاوزت حالة الانقسام والاستقطاب هذه الأردن إلى مجتمعات عربية أخرى. ولكن في الحالة الأردنية، المفترض أنّها لا تعاني من تداعيات الأزمات الطائفية والحروب الأهلية، ولم تصل فيها حالة الاستقطاب الإسلامي - العلماني إلى مرحلة شبيهة بدول عربية أخرى، فإنّ مساحة واسعة احتلها هذا السجال عن الموقف من هوكينغ، ما يعكس، بصورة واضحة وجليّة حقيقية، أزمة الهوية الشديدة في الدول العربية اليوم.
كانت مثل هذه الأزمة موجودة منذ عقود سابقة، وتجلّت، في الجانب السياسي، بدرجة كبيرة في الصراع بين التيارات الإسلامية والقومية والليبرالية وغيرها، وحتى في أوساط النخب المثقفة والأدباء والمفكرّين، لكن من الواضح أنّها بعد ثورات الربيع العربي والتطورات التي تبعتها، خصوصا ما يحدث في سورية من حرب أهلية، وقبلها الانقلاب العسكري في مصر، بعد فترة حكم الإخوان المسلمين وعزل الرئيس الأسبق، محمد مرسي، فإنّ أزمة الهوية انتقلت إلى الشارع والمجتمع، بمعنى أنّ سؤال الهوية لم يعد مطروحاً لدى النخبة السياسية فقط، بل لدى المجتمع بنفسه.
هو أمر طبيعي، لأنّ الأنظمة العربية الاستبدادية قبل الربيع العربي فرضت أيديولوجيا معينة، وأوجدت نوعاً من الهويات الوطنية (وإن كانت فوقية) استوعبت الجميع، لكن مع أحداث سورية، وبروز المسألة الطائفية، بالتزامن مع ما يحدث في مصر (وبدرجة قريبة تونس)، فإنّ الهويات الوطنية ضعفت، وتراجعت مشروعية الدولة وسلطتها الأدبية، لصالح الهويات الأخرى، الطائفية والعرقية والدينية.
انفجر سؤال الهوية في العالم العربي مع بروز تنظيم داعش على السطح السياسي وما أحدثه من فوبيا هائلة لدى التيارات العلمانية والأقليات الدينية والطائفية، وقد أوجد ذلك مناخاً جديداً يتجاوز الطروحات السياسية التقليدية للأحزاب والقواعد الكلاسيكية للصراع السياسي، إلى صراعات وأزمات من نوع آخر مرتبطة بالهوية، ليس هوية الدولة فقط، أي الحزب الحاكم، بل هوية المجتمع نفسه.
لم تعد المجتمعات العربية اليوم أمام سؤال وحيد، يتمثّل بالتحرّر من الاستبداد والأنظمة الدكتاتورية ومواجهة حالة الفساد والإغلاق السياسي، كما كانت الحال قبل ثورات الربيع العربي، بل أصبحت هنالك أسئلة جوهرية مقلقة أكثر للمواطن العربي، ولأمنه اليومي والأسري والمجتمعي، ومرتبطة بهويته وهوية المجتمع والدولة، فالحروب الداخلية، وإن تبدّت بصورتها المسلّحة والعسكرية على قاعدة طائفية في مشهد سورية والعراق واليمن، مثلاً، فإنّها موجودة وقائمة حيوية في مشهد دول أخرى، على قواعد مختلفة، مثل القاعدتين، الدينية والثقافية.
في الأردن، وعلى وقع أحداث سورية ومصر، حدث انقسام شديد، غداة الربيع العربي، ثم الثورة المضادة، وبرزت الخلافات، ووصلت إلى درجة انقسام التحالفات السياسية التقليدية (بين الإسلاميين والقوميين واليساريين)، وتفكّك الجبهة الوطنية للإصلاح (كانت تمثّل الوعاء السياسي لهم جميعاً)، ثم برزت المعركة على المناهج التعليمية، ورُفعت شعارات الدولة المدنية، وتشكّل التحالف المدني (على قاعدة إقامة الدولة المدنية - العلمانية)، إلاّ أنّ التحالف نفسه واجه مشكلة جديدة، وانقسامات غير معلنة، تهدد بانفجاره من الداخل على خلفية ما يحدث في الغوطة  الشرقية اليوم، بين تيار الليبراليين في التحالف والنخبة القومية المؤيدة لبشار الأسد  في التحالف نفسه!
لذلك نقول إن الربيع العربي ليس غمامة صيف عابرة، كشف أمورا ومشكلات وفجوات كثيرة، ويتطلب قراءة عميقة ومعمّقة، والتفكير في خارطة الطريق المطلوبة في المستقبل، للوصول إلى الأنظمة الديمقراطية التعددية. وفي قلب ذلك كله، لا يمكن أن نتجاوز أو أن نقفز على سؤال الهوية الثقافية، لذلك أصبح الحديث عن عقد مجتمعي (بين الفئات والشرائح الاجتماعية نفسها) يتم التفاهم فيه على القيم الحاكمة للتشريعات والدستور نفسه، بمثابة الأساس الحقيقي لبناء العقد الاجتماعي، بين السلطة والمجتمع، فالأصل توافق المجتمع نفسه على الثقافة الوطنية التي تمثّل البنية الصلبة للوفاقات الوطنية.
محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.