مرّت 6 أشهر على إبرام وقف إطلاق النار حول محافظة إدلب، شمالي غرب سورية، وما تضمنه من بنود أخرى، في العاصمة الروسية موسكو بين الرئيسين التركي والروسي، رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، لكن غموض الاتفاق وعدم توضيح تفاصيله جعلا منه عرضةً للترنح والانهيار في أيّ لحظة منذ توقيعه، خصوصاً في ظلّ عدم الالتزام بالبند الرئيسي والأول منه، وهو الوقف التام لإطلاق النار، ليبقى صامداً وإن بشكل هشّ.
الاتفاق، الذي أوقف العمليات العسكرية في إدلب بين المعارضة السورية والجيش التركي من جهة، وقوات النظام والمليشيات الحليفة لها من جهة أخرى، بعد حملة واسعة انطلقت من جنوب وشرق "منطقة خفض التصعيد" (إدلب وما حولها)، يقضي إلى جانب وقف النار على خطوط التماس، بتسيير دوريات مشتركة على الطريق الدولي حلب - اللاذقية "أم 4" المار من إدلب، والذي تسعى روسيا لإعادة فتحه أمام الحركة الطبيعة والتجارية في أقرب وقت. كذلك يقضي بإنشاء حزام أمني بطول 6 كيلومترات على كلّ من جانبي الطريق.
تنعكس الملفات الإقليمية، ومنها ملف ليبيا، على الاتفاق
هذه البنود الثلاثة، طُبّق منها وقف النار بالحدّ الأدنى، بتوقيف سلاح الجو للنظام والروس الغارات الجوية على خطوط التماس والأماكن السكانية، والتي عادت بشكل محدود ومتقطع، بالإضافة إلى العديد من محاولات التسلسل والاختراق على الجبهات، التي شنّتها قوات النظام دون نجاح. إلا أن البند الذي يشير إلى إنشاء "ممرّ أمني" على جانبي طريق "أم 4"، لم يتضح إلى الآن في ما إذا كان قد تمّ تلافي تطبيقه من قبل طرفي الاتفاق. ولم تشر تصريحات السياسيين والعسكريين الروس والأتراك إلى انزعاج من عدم تطبيقه، علماً أنه يقضي بوضع آلية لمعايير محددة لعمل الممر الأمني بين وزارتي الدفاع الروسية والتركية خلال 7 أيام بعد إبرام الاتفاق، وهو ما لم يحصل.
أما البند الذي بدا أنه من أهم بنود الاتفاق، فهو القاضي بتسيير دوريات مشتركة بين القوات الروسية والتركية على طريق "أم 4". ويعتبر هذا البند الأكثر تطبيقاً، بعدما وصل عدد الدوريات إلى 26 مشتركة بين الطرفين، والتي قطعت الطريق بشكل تدريجي، حتى أتمت المسافة المحددة بشكل كامل لخط السير الدوريات بين بلدتي ترمبة شرق إدلب، وعين حور بريف اللاذقية الشرقية. إلا أن تلك الدوريات تخللتها تهديدات أمنية، تمثلت بأكثر من استهداف، ما أدى إلى إصابة جنود روس وأتراك في بعض منها. وزادت هذه العمليات أخيراً ما استغله الروس للتعبير عن مخاوف عن مستقبل الاتفاق، والتلويح بإنهائه.
ونفذت القوات التركية والروسية، في الأيام الأخيرة، مناورات عسكرية في بلدة الترنبة شرق إدلب، للتدرب على مواجهة التهديدات الأمنية لسير الدوريات، وربما تكون تلك المناورات مقدمة لعمل عسكري مشترك ضد التنظيمات الراديكالية غير الراضية عن اتفاق إدلب منذ توقيعه.
عموماً، ومنذ توقيع الاتفاق، تمّ النظر إليه على أنه منقوصٌ وغير واضح، لا سيما أنه ركّز على طريق "أم 4"، وأهمل الكثير من النقاط الخلافية بين الروس والأتراك. ومن هذه النقاط، قضم النظام لمساحات كبيرة في "منطقة خفض التصعيد" (إدلب ومحيطها) التي أقرّها مسار أستانة التفاوضي في مايو/ أيار 2017، وتمّ تثبيتها في اتفاق سوتشي بين كل من بوتين وأردوغان في سبتمبر/ أيلول 2018. هذه النقطة جعلت الجيش التركي يشن عملية عسكرية ضد قوات النظام نهاية فبراير/شباط الماضي ("درع الربيع")، لإبعاد قوات النظام عن إدلب ومحيطها تطبيقاً لـ"سوتشي" وحدوده الجغرافية المتفق عليها سابقاً، قبل توقيف العملية بعد إبرام الاتفاق الذي عُدّ ملحقاً باتفاق سوتشي.
كذلك، فإن مسألة إعادة النازحين المقدرة عددهم بـ1.7 مليون نازح، لم تُذكر إلا ضمن ديباجة أو مقدمة الاتفاق الملحق، ولم يتم تطبيقها إلى الآن. علماً أن إعادة النازحين تقتضي عودة النظام إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية التي تحيط بـ"منطقة خفض التصعيد" تهيئةً لعودة النازحين، الذين يرفضون العودة مع بقاء النظام في مدنهم وقراهم. وأيضاً أهمل الاتفاق مسألة السيطرة على طريق حلب - دمشق "أم 5" بجزئه المار من إدلب، لا سيما أن الكثير من القرى والمدن التي قضمتها قوات النظام تتوزع على جانبيه. وتعنت النظام بالسيطرة على الطريق وافتتاحه أمام العبور التجاري، يجعل المدنيين بعيدين عن العودة إلى مدنهم وقراهم مع إبقاء النظام سيطرته على الطريق، ما يجعل الجانب التركي يؤخر افتتاح "أم 4" قبل حل مسألة السيطرة على "أم 5".
ولم يعد اتفاق إدلب محكوماً بتطورات الميدان فقط، بل مرتبطاً بالملف الليبي والخلافات والاتفاقات الروسية والتركية هناك، إضافة إلى العديد من الملفات الإقليمية والسورية. فالتحسن في الملف الليبي بين أنقرة وموسكو ينعكس على التطورات وسير الاتفاق في إدلب، والعكس صحيح، كما أن التطورات شرقي سورية ترخي بظلالها على المشهد غرباً.
ورأى القيادي في المعارضة العميد فاتح حسون، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الظاهر من اتفاق إدلب أن تطبيقه يتم بحذر، فروسيا تستخدمه كذريعة للتصعيد على المنطقة كلما أرادت، وتركيا لزيادة عدد قواتها وتحسين عتادها في المنطقة". وأكد حسون أن الريبة لا تزال تحيط بمستقبل الاتفاق، بسبب العمليات الفردية التي تحدث لإعاقة تطبيقه، مضيفاً أنه "بالنسبة لنا، فإن الاتفاق لا يكون إيجابياً إن لم يعد المهجرون". وحول مستقبل اتفاق إدلب، رأى حسون أن "التصعيد الذي يحدث من طرف من لا يريد للاتفاق أن يستمر، ومنهم روسيا وإيران ونظام بشار الأسد، وخصوم تركيا، قد يؤثر على مستقبله وفعاليته ونجاحه، لكننا نعلم تماماً أن التشبث به أخف الأضرار، والتدخل الأميركي العلني الأخير الذي ورد على لسان المبعوث جويل ريبورن بالوقوف إلى جانب تركيا في المنطقة في وجه نظام الأسد والروس، يقوي الاتفاق ويوجه لتطبيقه".
تستخدم روسيا الاتفاق كذريعة للتصعيد على المنطقة كلما أرادت، وتركيا لزيادة عدد قواتها وعتادها هناك
من جهته، رأى الصحافي والمحلل السياسي التركي هشام غوناي، أن "الاتفاق، وعلى الرغم من كل الخروقات التي تخللته، لا يزال قائماً"، معتبراً أن "الجانب الروسي أكثر تمسكاً ببنوده مقارنة بالاتفاقات السابقة"، وموضحاً أن ذلك يعود "إلى دخول معطيات أخرى على ملف إدلب بالنسبة إلى روسيا، كملفي ليبيا وأذربيجان وأرمينيا، والحسابات في كل منها تنعكس على اتفاقات أو الميدان في إدلب".
وأشار غوناي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن تركيا وروسيا تتمسكان بتطبيق الاتفاق، معتبراً أن بلاده "تقوم بواجباتها كطرفٍ فيه من خلال دعم المعارضة". وحول نوعية هذا الدعم، قال إن "هناك مسار اللجنة الدستورية، وتركيا تحاول الحفاظ على مكتسبات الثورة من خلال الدفع ليكون للمعارضة دور مهم في هذا المسار، وأيضاً من خلال الحفاظ على المناطق التي لا تزال تحت سيطرة المعارضة".
ومنذ توقيع الاتفاق، لم تنقطع التعزيزات العسكرية التركية نحو إدلب، التي حملت معها معدات نوعية لإظهار القوة والتفوق. ويبلغ عدد الجنود الأتراك، وفق تقديرات غير رسمية، نحو 20 ألف جندي، فيما بلغ عدد الآليات التركية أكثر من 8 آلاف آلية معظمهم من الدبابات ومدافع الميدان. كما أدخلت تركيا إلى إدلب 3 منظومات للدفاع الجوي، وأنشأت مزيداً من النقاط على المرتفعات وقرب خطوط التماس، حتى بلغ عدد نقاطها العسكرية في إدلب حوالي 60 نقطة.
وتشير المباحثات الأخيرة بين الروس والأتراك في موسكو يومي الإثنين والثلاثاء الماضيين، إلى عدم التوصل إلى تفاهمات نهائية حول إدلب، مع تمسك الأتراك بحلّ مسألة السيطرة على طريق "أم 5" بالتوازي مع مسألة السيطرة على "أم 4"، ومعضلة عودة النازحين، بالإضافة إلى تأثير الملف الليبي على وضع إدلب مباشرة، مع ما يتخلله ذلك الملف من خلافات جوهرية بين الروس والأتراك.