لكن داريا التي لا تزال أسيرة الحصار منذ أكثر من 36 شهراً، تبقى بعهدة المقاتلين المحليين من أبنائها حتى اليوم، على الرغم من أن أهلها دفعوا، ويدفعون، ثمناً باهظاً لوجودهم. وقد شهدت المدينة واحدة من أكبر المجازر المروعّة خلال الثورة السورية (2011)، وتقلّص عدد سكانها عشرات المرات في ثلاث سنوات، ويُقيم فيها حالياً أقلّ من خمسة آلاف نسمة، بعد أن كان عددهم أكثر من 350 ألفاً مع نهاية عام 2011. بذلك، استحقت المدينة عن جدارة لقب "ستالينغراد سورية".
بدأ كل شي في داريا، يوم الجمعة 25 مارس/آذار 2011، مع خروج أولى التظاهرات ضد النظام، قبل أن تتواصل الاحتجاجات في الأشهر اللاحقة. وواجه النظام المدينة، كحال باقي المناطق الخارجة عن طاعته، بالرصاص الحي، ما أدى لسقوط عشرات القتلى والجرحى من المتظاهرين السلميين.
لكن التطور الأبرز الذي شهدته المدينة، كان مع بداية عام 2012، أذ إن صوت التظاهرات السلمية بدأ يخفت مع ازدياد بطش النظام. أدى ذلك إلى حمل بعض شباب المنطقة السلاح، وانضم إليهم في نفس الفترة بعض العسكريين المنشقّين، ليتسع العمل المسلح شيئاً فشيئاً، إلى حدّ نشوب اشتباكات مع قوات النظام، وصلت ذروتها منتصف عام 2012، بعد إعلان المعارضين عن تشكيل كتائب عسكرية في مناطق داريا ومحيطها، ككفرسوسة، والمعضمية، والمزة، والقدم، وغيرها، تحت أسماء مختلفة.
في أغسطس/آب 2012، باتت داريا تقريباً خارج سيطرة النظام، ومع نهاية أغسطس، شنّت قوات النظام حملة قصفٍ مدفعي غير مسبوق على أحياء المدينة. استمر القصف طيلة خمسة أيام، انسحب خلالها المقاتلون المعارضون إلى خارج المدينة، فاقتحمها آلاف الجنود من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، يوم السبت 25 أغسطس، وارتكبوا مجزرة راح ضحيتها مئات المدنيين. وقدّر ناشطو داريا العدد بما لا يقل عن 700 قتيل بينهم نساء وأطفال، فضلاً عن مئات الجرحى ومثلهم من الذين اختفوا منذ ذلك التاريخ.
اقرأ أيضاً: سورية: المعارضة تتصدى للنظام بداريا وتتوحّد بالقلمون
من جهتها، وثّقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" في تقريرٍ لها في حينه، أسماء 524 قتيلاً، أغلبهم من المدنيين، لأن معظم عناصر الجيش السوري الحر، قد انسحبت من المدينة بعد ظهر يوم الجمعة السابق. وتُفيد الشبكة في التقرير بأن "قوات النظام قامت بعمليات انتقام من الأهالي والمدنيين، وأن من بين الشهداء 61 جثة لامرأة، تمكنّا من توثيق أسمائهم أيضاً". وتُضيف بأنه "نحن على يقين تامّ بأن عدد الشهداء أكبر من ذلك، لأنه تمّ دفن عدد كبير من الجثث مباشرة، من دون التعرف على أسماء أصحابها، كما أن عدد كبير من الجثث مشوّه بالكامل، ولا يمكننا التعرّف عليها". وقد خلّفت الحملة أيضاً، وفقاً للتقرير، 1160 جريحاً وأكثر من 100 مفقود، في عداد المختفين قسرياً.
وتُعتبر هذه المجزرة، من أكثر المجازر وحشية خلال عمر الثورة، وقد روّج النظام عبر وسائل إعلامه، في ذلك الوقت، بأن القتلى "هم من الإرهابيين". كما بثت قناة "الدنيا" التابعة له، مساء المجزرة، تقريراً يزيد عن الـ13 دقيقة، تظهر فيه مراسلة القناة، وهي تسير بين عشرات الجثث ببرودٍ تام، وتجري لقاءات مع بعض الجرحى والمعتقلين، على أنهم من سكان المدينة الذين "عانوا من ويلات الإرهاب". وأبرز تلك اللقاءات، كان مع امرأة مسنّة مصابة بطلقٍ ناري، إذ حاورتها المراسلة، بينما كانت المرأة مُمددة في مقبرة المدينة تنتظر من يسعفها.
دوّت وقائع مجزرة داريا في وسائل الإعلام العربية والغربية، التي بثت عشرات المشاهد التي صوّرها ناشطون لجثث الضحايا. وتُشير كل الأدلّة إلى مسؤولية النظام الكاملة عن ارتكاب المجزرة. ما حدا بوزارة إعلام النظام إلى إدخال الصحافي البريطاني المعروف روبرت فيسك (كان موجوداً في دمشق وقتها) إلى داريا، بمرافقة قوات النظام. ونشر فيسك تقريره لاحقاً في صحيفة "الاندبندنت" البريطانية، واستهله بعبارة "داريا بلدة أشباح وأسئلة".
ويورد فيسك في تقريره، أنه "أول صحافي غربي يشهد على الأوضاع في داريا، ودخلها برفقة عناصر من الجيش السوري في عربة مدرّعة قديمة، وتمكن من التحدث إلى مدنيين بعيداً عن مسامع المسؤولين السوريين. وكانت رواياتهم عن عملية القتل الجماعي، التي راح ضحيتها ما لا يقلّ عن 245 شخصاً على الأقل من الرجال والنساء والأطفال، أكبر بكثير مما كان يُعتقد".
لكن فيسك يُعيد في تقريره سبب المجزرة، إلى "فشل مفاوضات كانت تجري بين النظام والمعارضة"، كما يُدلي بمعلومات أخرى، استقاها ممّن قابلهم من مدنيين وهو برفقة قوات النظام. ما دفع "تنسيقية داريا" لإصدار بيانٍ حول تقرير فيسك، نشرته في آخر أيام شهر أغسطس/آب 2012، تُشددّ فيه على أن "من أهم المآخذ على التقرير، وهو مأخذ من شأنه أن يجعل أي إفادة للضحايا مطعوناً فيها، هو وجود أفراد الجيش النظامي، وهو ما اعترف به السيد فيسك. وأي شخص لديه أدنى معرفة بالنظام السوري، يُدرك درجة الرعب التي يسببها هذا الوجود في قلوب وعقول الشهود. وليس من المقنع القول إن الجيش لم يلقن الشهود أي شيء، فمجرد وجودهم يجعل الضحايا يُكرّرون الاتهامات الجاهزة التي تروّجها الحكومة عن العصابات المسلحة والإسلاميين المتشددين. وهذا الخوف يبدو أكثر ما يبدو في رفض الشهود تحديد الجهة الفاعلة".
وحول تفسير فيسك من أن "المجزرة حصلت بسبب فشلٍ مفاوضات كانت جارية"، يشير بيان التنسيقية، إلى أن "السؤال الذي يطرح نفسه هو: حتى لو كان هناك تبادل للأسرى وفشل، فهل هذا يبرر لنظام (الرئيس السوري بشار) الأسد هذا المستوى من الانتقام؟ وهل كانت هناك مفاوضات مماثلة وفشلت قبل مجازر مدن المعضمية، وسقبا، وغيرها؟ في الواقع، إنّ ما حدث ويحدث في مدن محافظة ريف دمشق، بل في سورية كلها، إنما هو تنفيذ لسيناريو متكرر يبدأ بالقصف وينتهي بمجازر بحق المدنيين".
في الأسبوع الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012، دخل مقاتلون من الجيش الحرّ إلى المدينة، وشنوا عمليات متزامنة على عشرات الحواجز التي قطع بها النظام أوصال داريا. ودارت معارك عنيفة حينها، سُمع صداها في كل أرجاء العاصمة دمشق، واستخدم النظام فيها سلاح الجو، إذ إنه خشي من وصول المقاتلين المعارضين له، إلى المتحلق الجنوبي، الذي يمر على أطراف داريا الشمالية (وهو شريان امدادٍ مهم لقواته). كما أن وجود فصائل مسلحة على بعد أمتار من مطار المزة العسكري الذي يجاور داريا، دفع النظام لاستخدام أعتى أنواع الأسلحة الثقيلة، خلال عشرات المحاولات لاستعادة السيطرة على المدينة.
ويقول الناشط الإعلامي مجد الديراني لـ"العربي الجديد"، إن "النظام شنّ عشرات الحملات العسكرية الضخمة، في محاولات يائسة لدخول المدينة خلال السنوات الثلاث الماضية، لكنها فشلت جميعاً". ويؤكد الناشط الإعلامي المتواجد في داريا، والذي شهد جميع المعارك هناك، ووثق كثيراً من الأحداث من خلال تصويره لمئات مقاطع الفيديو، بأن "عام 2013 شهد عشرات المعارك الطاحنة التي خسر فيها النظام مئات الجنود وعشرات الدبابات، كما شنّ عدة حملات ضخمة على المدينة في يناير/كانون الثاني ومايو/أيار ويوليو/تموز من عام 2014، وصولاً للعام الحالي، الذي شهد بدوره مواجهات عنيفة، أبرزها معركة لهيب داريا، التي انطلقت في أغسطس الماضي".
ويضيف الديراني، أن "النظام بدأ باستخدام البراميل المتفجرة في داريا في 25 ديسمبر/كانون الأول 2013، وتجاوز عدد البراميل المتفجرة التي ألقتها مروحيات النظام على داريا، الـ2500 برميل، ألفان منها فقط في الأشهر الثلاثة الأخيرة".
ويتابع قائلاً إن "هذا الكمّ الهائل من البراميل، بالإضافة للاستهداف بمختلف أنواع المدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ منذ ثلاث سنوات حتى الآن، دمّر الغالبية العظمى من الأبنية السكنية، كما تم تدمير جميع البنى التحتية وشبكات الكهرباء والماء والاتصالات".
وكنتيجة لذلك، يضاف إليها أن النظام يفرض حصاراً خانقاً على المدينة منذ 36 شهراً، فإن عدد المدنيين في داريا بات يبلغ اليوم بحسب الناشط الإعلامي "أقل من خمسة ألاف نسمة فقط"، مع الأخذ بعين الاعتبار أن عدد السكان كان يبلغ 255 ألف نسمة بحسب الإحصاء الرسمي الذي أجري سنة 2007، كما بلغ مع نهاية عام 2011، وفقاً لناشطين، أكثر من 350 ألفاً. ويتواجد في المدينة الآن مقاتلون يتبعون "الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام"، لكن الفصيل الأبرز المقاتل هناك، هو "لواء شهداء الإسلام"، بينما ينظم شؤون المدينة عموماً "المجلس المحلي لمدينة داريا".
اقرأ أيضاً سورية: المعارضة تتقدم شرقي العاصمة وتحبط هجوماً للنظام غربها