حين أصدر أمبرتو إيكو موسوعته عن الجمال في الفن، لم يكن إلا ليُتبعها مباشرة بموسوعة البشاعة في الفن، ليكشف أن مفهوم الجميل الذي أرسته الجماليات الكلاسيكية ليس مطابقا للفنون وتاريخها بقدر ما هو جزء منها فقط أو في أسوأ الأحوال مآل لها. ثمة ما يغري ويفتن في البشاعة، بحيث إن الإنسان وهو يعيش غرابتها رمى بها في حضن المقدس والميتافيزيقي، وكأنه بذلك يسعى إلى ترويض طابعها المُغْرب....
هو فنان خلق الدهشة في ساحة الفن العربي منذ بداية الألفية الجديدة. تمّ اعتباره ظاهرة الفن العربي المعاصر، لأن أعماله ارتادت آفاق العالمية في وقت وجيز لم يُتح لفنانين. سبهان آدم، الفنان السوري الذي ولد بمدينة الحسكة بسورية سنة 1972، لم يتخرّج من إحدى المدارس العالمية للفنون الجميلة. انبثق الفن من أعماقه كبركان، كما لو كان ذلك أشبه بتعرية كاشطة لانسحاق الإنسان، أو بعلاج شخصي يمارسه الفنان في حلبة التشكيل، بشكل علني، بما يشبه الطقس اليومي. ربما هذا ما يفسر تلك الممارسة اليومية له بحيث إنه عرف بإنتاج غزير يتجاوز السبعمائة لوحة في السنة.
عالم سبهان آدم عالم الغرابة غير المحتملة. كائناته تتحدى العين بتشوهاتها الكثيرة والمتناسلة التي تطاول الوجه كما الأعضاء. وبما أن الوجه هوية الكائن التي تمنحه إنسانيته، فإن تحولاته تغدو هنا انزياحات عنيفة عن الإنساني نحو الوحشي. لقد سمي الوحش كذلك لغرابته عن النموذج البشري والحيواني. لهذا تكاد تكون تلك الكائنات، حتى وهي تتسربل في حلل إنسانية مزركشة تزيدها غرابة، مرآة البشري المشوهة وثنيتها الباطنة التي تكاد تكشف لنا أن الوجه فقط قناع للوحشي. تبدو تلك الكائنات وكأنها تخرج من كوابيس مرعبة، أو تلبس أقنعة "هالوين" مثيرة للرعب. غير أننا نراها في وضعيات مريحة وغير حكائية، وكأنها تستعرض عليها طابعها العجيب وتكتفي بذلك. وحين اطلع أدونيس على أعمال سبهان آدم، كتب قائلا: "اللوحة حياة، والأنا كيان إنساني-حيواني، إنه مزج يزعزع من جهة حدود الهوية الذائبة في اللوحة، ويولد في الشكل، من جهة ثانية، قوة جديدة تتجاوز قوة الإنسان المعهودة". ثمة قوة قاهرة تبين عنها الشخصيات، واستعلان يجعلها تنتزع شرعية وجودها في تقرّدها. لكن ليس ثمة من حيوانية كما نرى في أعمال سبهان بقدر ما ثمة مسخ ووحشية monstruosity . بين الكائن والوحش، ثمة الحيوان من ألفته إلى وحشيته والمسخ يولد نوعا ثالثا لا هو بالحيوان ولا هو بالإنسان...
لا يلعب الفنان إذن على ما يميز البشري عن الحيواني، وإنما على ما يميز الإنساني عن
وإذا كان الفن الغربي قد منح كل صفات البشاعة للشيطان، فإن التكعيبية والسوريالية والتعبيرية قد جعلت منها مبدأ جماليا إنسانيا بتفكيك الكائنات والأشياء وإعادة تركيبها وفقا لمنطق جديد يمنحها إما بشاعة مقبولة أو غير قابلة للاحتمال. أما في الفن العربي فإن هذا التوجه صار يجد مكانا له في أعمال الكثيرين، بحيث يمكن أن نعتبره توجها جماليا كما لدى عباس الصلادي ومحمد الإدريسي وسيروان باران وغيرهم. مما يدل على أن مبادئ الجمال والتناسق التشكيلي لم تعد قادرة على الكشف عن مأساة الوجود الإنساني وأن الحياة في عمقها جميلة في بشاعتها وبشعة في جمالها (فالجمال الذي لا يخفي سر الحسن قد يغدو مثيرا للتقزز)...
ونحن نرتاد عالم سبهان آدم نجد أنفسنا أحيانا أمام أيقونات بصرية جديدة. فشخصياته تبدو وكأنها تستعرض فرادتها العجيبة في صمت وعزلة يحولانها إلى شخصية مكتملة، مكتفية بذاتها المتعددة. بل إنها تبدو كما لو أنها تلتقط لنفسها صورة في استوديو في خلفية ملونة نعزز تلك العزلة الفردية القاتلة المتباهية ببشاعتها وطابعها الاستثنائي. في أحيان أخرى يؤطرها الفنان بخلفية زخرفية تحولها إلى منمنمة. هذا الطابع الجديد يؤنسن تلك الشخصيات ويحولها إلى كائنات خرافية نابعة من صلب الأساطير الشخصية والذاتية. والحقيقة أن إصرار الفنان على الاشتغال على الموضوعة نفسها (بورتريهات الغرابة)، بتحويلات طفيفة وتلوينات جديدة وانزياحات متواترة، إن كان يطرح جماليا مسألة الأسلوب فهو يقلل من تلك الدهشة التي وسمت دخوله الجارف إلى العالمية. فهذه الكائنات سوف تغدو أليفة مثلها مثل الكائنات الصغيرة الآتية من المريخ التي صارت أليفة في أفلام الخيال العلمي. وللمقارنة فقط، فإن كائنات محمد الإدريسي منذ الثمانينيات، وبالرغم من أن تشوهها لا يصل حد تشوهات سبهان آدم، تندرج في مشاهد اجتماعية تجعل كل لوحة حكاية وكل تجربة غوصا في مجهول جديد من مأساة الوجود الإنساني.
ربما هذا بالضبط ما حذا بالفنان إلى ابتداع وضعيات تتجاوز البورتريه، وهي نادرة، كأن يضع شخصيته فوق سرير، أو يمنح للمأساوية الهادرة لتلك الشخصيات طابعا بهلوانيا يخفف من مأساويتها وغرابتها ويدرجها ضمن غرابة الساخر. وهو ما يعني أن كائنات سبهان آدم قد بدأت تسأم من استعراضيّتها وتنحو نحو الخروج من عزلتها، ربما لتعيش غرابتها الآسرة وسط الجموع...