سبايا داعش في ليبيا... ممرضة فيليبينية تروي وقائع استعبادها في سرت

09 ابريل 2019
عانت فيرن ورفيقاتها من الأسيرات لدى داعش (العربي الجديد)
+ الخط -
 
 
اختنقت الممرضة الفيليبينية فيرن بالعبرات دون أن توقف حديثها، وكأنها كانت تزيل حملاً ثقيلاً عن كاهلها، ولم يتمالك المترجم نفسه حتى دمعت عيناه، من معاناتها التي روتها بعدما أنقذتها قوات البنيان المرصوص التابعة لحكومة الوفاق الوطني، ونقلتها إلى مؤسسة الإصلاح والتأهيل الجوية التابعة لجهاز الشرطة القضائية بمدينة مصراتة، إذ كانت إحدى سبايا تنظيم داعش من المحتجزات في مدينة سرت.

وجاءت فيرن إلى ليبيا بعقد عمل عام 2014، غير أن حظها السيئ أوقعها عام 2015 رهينة لدى تنظيم داعش الذي أعلن سيطرته على مدينة سرت الليبية، قبل أن تحررها قوات عملية البنيان المرصوص من التنظيم الإرهابي في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2016، لتعود بعدها لحضن وطنها وطفليها وزوجها في الفيليبين، بعد 13 شهراً عاشتها مع عناصر تنظيم الدولة، كما بدأت شهادتها على تلك الفترة قائلة لمعدّ المادّة بأنها تزوجت عام 2013، وأنجبت طفلتها الأولى في الفيليبين قبل أن تحصل على فرصة عمل في جامعة سرت الليبية محاضرةً في مجال التمريض، ما دفعها إلى ترك ابنتها وزوجها وجاءت لليبيا مع جنين في بطنها، نهاية عام 2014.

عاشت الممرضة الفيليبينية سنتها الأولى في غاية الانسجام: "كانت أجواء العمل والحياة في سرت مريحة، أنجبت طفلتي الثانية، وأرسلتها مع صديقتي إلى الفيليبين وبقيت لأواصل عملي أستاذةَ تمريض".

نهاية عام 2015، بدا أن العناصر الإرهابيين يسيطرون على المدينة، فعزمت فيرن أمرها على مغادرة سرت بانتهاء الفصل الدراسي، لكن الأمور سارت على نحو مختلف.. فحين كانت تستقل سيارة أجرة نحو العاصمة طرابلس، أوقفتها نقطة تفتيش تابعة للتنظيم على بعد خمسين كيلومتراً غربي سرت، واحتجزت ورفاقها بعد التعرف إلى جنسياتهم: "كنا أحد عشر فيليبينياً، تسع نساء ورجل واحد وطفل، بقينا رهن الاحتجاز لعشر ساعات تقريباً في حجرة مجاورة لنقطتهم، ثم عادوا بنا لسرت مقيدي الأيدي، مغمضي الأعين".. ما الذي يحدث؟! كنا نسأل بعضنا بلا إجابة غير الصمت المخيف الذي مررنا به، كما تصف تلك اللحظات المؤلمة.
 
 
 

أبو عامر الجزراوي

في سرت وضعت فيرن ورفيقاتها من النساء داخل حجرة بأحد المباني، فيما أخذ الرجل إلى مكان آخر، هناك جاءهم شخص يتحدث الإنكليزية بطلاقة، تعرفت إليه فيرن، وكانت سانحة لم تتوفر لكثيرين غيرها، فقد اتضح أنه والي طرابلس "أبو عامر الجزراوي"، وهو سعودي الجنسية، تصفه المتحدثة بأنه طويل القامة رياضي الجسم ويرتدي نظارات طبّية.

تعرف أبو عامر إلى "فيرن" ورفاقها، وتحدث معهم حول تخصصاتهم، وفي نهاية حديثه خيّرهم بين ثلاثة أمور: "إما اعتناق الإسلام ليكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإما البقاء على الديانة المسيحية بشرط العمل مع التنظيم ودفع الجزية، والخيار الثالث أن تبقوا في السجن إلى أن نصدر عليكم حكمنا".

وترك الوالي رهائنه دون أن ينتظر جواباً، وكان عليهم الترقب وانتظار المجهول، لكن مفاجأة غير سارّة كانت بانتظار الممرضة "فيرن" تحديداً.

وظهر أبو عامر الجزراوي، في فيديو ذبح الأقباط متحدثاً باللغة الإنكليزية، التي يجيدها بطلاقة لإقامته فترة من الزمن في كندا، وهو سعودي الأصل من مدينة الرياض، وله زوجة وابن يعيشان في السعودية.

وعام 2015 تزوج "أبو عامر" فتاة ليبية في سرت، ثم قتل في حي الجيزة البحرية إبان عملية البنيان المرصوص في ديسمبر/ كانون الأول 2016، بحسب اعترافات هشام إبراهيم عثمان مسمح، المعروف باسم ديناصور داعش، التي سبق أن اطلع عليها معدّ المادة لدى جهات التحقيق.
 
 
 

في بيت الوالي

تقول فيرن إنها عزلت عن بقية رفيقاتها، وأخذت ذات مساء مغمضة العينين، لتجد نفسها في فيلا من طابقين، وكان رفيقها في الفيلا هو "أبو معاذ التكريتي" والي ليبيا!

و"أبو معاذ التكريتي" هو ثاني الشخصيات في هرم داعش ليبيا، وهو من العراق أيضاً، كان عمره وقت اختياره "والياً" يقارب الواحد والأربعين، وقد تقلد منصب والي شمال أفريقيا بعد مقتل "أبو عبد العزيز الأنباري".

ويمتلك "التكريتي" خبرة في مجال الإعلام، بحسب اعترافات ديناصور داعش وقد فرّ بعد شهر من اندلاع الحرب في سرت، إذ تسلل مع مجموعة الحدود إلى الصحراء. وتقول فيرن والعبرة تخنقها، إن الوالي طاردها بخبل داخل المنزل محاولاً اغتصابها، مضيفة وهي تبكي: "توسلت له، أنا متزوجة لدي طفلتان، أرجوك دعني أعُد لأسرتي، صرت أهرب من دار لأخرى في الدور الثاني للفيلا الكبيرة".. ولسوء طالعها لم يكن يفهم من لغتها الإنكليزية شيئاً.

كان صمودها أقوى من عزيمته، وحين أصابه اليأس ركلها برجله غاضباً وغادر.. فيما ظلت تبكي حتى جاءها "أبو عامر" في صباح اليوم التالي غاضباً، وشرح لها وضعها الجديد: "منذ اللحظة أنت سبية لنا". ثم أخذها وأرجعها إلى رفيقاتها، فبقين هناك لأيام وفي كل يوم يدخل عليهنّ أشخاص لدقائق ويخرجون: "وكأننا في معرض، يدخل علينا أشخاص ملثمون، يطلبون منا الوقوف، ثم يخرجون" كما تقول فيرن.

استوعبت الممرضة الفيليبينية ورفيقاتها حقيقة وضعهنّ كسبايا، وتحركن بناءً على ذلك، ففضلن البقاء مع شخص واحد على أن يتناوب على استعبادهنّ عناصر التنظيم، وخاصة بعد لقائهن برهائن أخريات، تقول فيرن: "التقيت بنساء من إريتريا، عرفت كيف يعاملن كسبايا، كان عناصر داعش يتبادلونهن في ما بينهم، إما كجائزة وإما هدية وإما مقابل المال".

فكرت فيرن، ثم قررت إعلان إسلامها ونطقت بالشهادتين: "لم أكن أتوقع أن الدخول في الإسلام يقتصر على نطق جملتين فقط".



من فيرن إلى فتحية


إعلان إسلام فيرن ألزمها الزواج، ورغم تذكيرها للخاطفين بأن لها زوجاً وطفلتين، ورغم بكائها وتوسلها، فقد كان الرد حاسماً: "أنت مع إسلامك ولدت من جديد". ورضخت أخيراً.. بعدما وضعت أمام خيارين، فإما الارتباط بأحدهم، وإما تغدو سبية يتناوب عليها السادة! كما تقول مضيفة أنها تزوجت، وبعدما طلب منها المأذون الشرعي اختيار اسم بديل لوثيقة الزواج، اختارت اسم فتحية، الذي قالت إنه كان قريباً من نطق اسمها فيرن، كما أنه اسم لإحدى طالباتها في كلية التمريض وكانت أثيرة لديها.

الزوج الجديد لفتحية هو أبو علاء التونسي، كان بعمر 33 عاماً، فارع الطول، شعره أسود منسدل، يتحدث الإنكليزية والفرنسية، ويعمل في الجهاز الأمني لداعش، وكان ملازماً لأبي عامر الجزراوي والي طرابلس.

وعاشت فتحية حياتها الجديدة بكل معاناتها، تعاطت حبوباً لمنع الحمل، وكان زوجها يتغاضى عن الأمر، وأحياناً كان يحذرها: "لا تتناولي هذه فهي حرام، يجب ألا تتعاطيها".

وفي دوامة من التناقضات والانفصام استمرت: "كنت أهرب من تذكر زوجي وطفلتي وأبي وأمي لأن ذلك يؤلمني بشدة، فأنا لم أعد قادرة على البكاء، صرت أشعر بضيق شديد في صدري"، وتواصل وصف التناقضات: "كنت أصلي كالمسلمين في حضور أبو علاء، وعندما يغيب أمارس طقوس صلاتي المسيحية، وأدعو الله بالخلاص".. ومع كل ذلك فقد انتصرت إرادة الحياة لديها حين فكرت في الانتحار: "فكرت كثيراً في الانتحار لكنني خفت".

في النهار كانت "فيرن أو فتحية" تعطي دروساً في التمريض داخل مجمع العيادات بسرت لعشرين امرأة من غير الليبيات، وأتاح لها هذا الأمر الخروج وفرصة الحصول على الإنترنت، فأرسلت لزوجها في الفيليبين تخبره بما حدث لها ولرفاقها قائلة: "أرسلت أخبره بما حدث وانتظرت لدقائق رداً لم يأت"، كان الحصول على الإنترنت والتواصل يمثل خيانة، وكانت ستقتل لو اكتشف أمرها. لكنها قامرت.. وكان لها شرف المقامرة.

كل الفيليبينيات الأخريات وضعن في سكن، به عدد من الشقق تابع لمستشفى ابن سينا، كانت فيرن تقطن إحدى الشقق مع أبي علاء، في مسكن محاط بحراسة مشددة، لا يمكن الخروج منه أو الدخول إليه إلا من خلال بوابة يقف بها مسلحون طوال اليوم، لذا فقد كان الهرب فكرة عبثية: "كان الهرب مستحيلاً، كنا مراقبين طوال اليوم، وتحركاتنا تتم تحت إشرافهم، لا نرى من سرت سوى الأماكن التي ينقلوننا لها"، وتضيف مع زفرة أطلقتها من صدرها: "كنا في سجن كبير.. وفي رعب دائم".
 
 
 

عدالة السماء

في مايو/ أيار من عام 2016، أطلقت السلطات الليبية عملية عسكرية ضد تنظيم داعش في سرت، عرفت إعلامياً باسم عملية البنيان المرصوص، وأثناء الحرب نقلت الفيليبينيات للإقامة بمنزل خصص كمستشفى للنساء، وبتقدم الحرب كان أبو علاء يأتي في كل مرة لينقلهن إلى مكان جديد، إلى أن وصلن أخيراً إلى منطقة الجيزة البحرية آخر الأحياء في قبضة التنظيم. وفي شهر أكتوبر 2016 قتل أبو علاء، وكانت فيرن شاهدة على مقتل مغتصبها كما تقول: "التجأنا لمنزل بحي الجيزة البحرية، ومع اشتداد القتال ضربت قذيفة المنزل الذي كنا به فقتل أبو علاء، شاهدته ميتاً أمامي، وبقدر الرعب الذي كنت فيه غمرني الفرح لمقتله".

في الأثناء استطاعت القوات الليبية فتح ممر للمحاصرين بالحيّ من جهة البحر، ومن هناك خرجت نساء داعش الأسيرات إلى فضاء الحرية الرحب.. وعادت "فيرن".

ابحثوا عن اللاب توب

كل الفيليبينيين الذين ثم إنقاذهم كانوا معاً، في مؤسسة الإصلاح والتأهيل الجوية بمدينة مصراتة، ثم عادوا إلى الفيليبين بعد حضور مندوب عن حكومتهم.

كان معدّ المادّة والمترجم يلملمان أوراقهما حين انتفضت فيرن فجأة، كمن تذكر شيئاً مهماً، وتابعت تقول: "كان هناك لاب توب في الحجرة التي كنا بها، لا بد أن يكون به شيء مهم، فأبو علاء سلمني إياه طالباً مني الاحتفاظ به وتسليمه لأبي عامر، لقد تركته هناك قد تجدونه"، وكانت هذه آخر كلماتها.

هنالك، لم نجد لاب توب ولا صاحبه، ولا شيء غير أدخنة متصاعدة نحو السماء، هكذا تركنا سرت وقتها، أما فيرن فقد طارت نحو الفيليبين أخيراً.
دلالات