سباق الرئاسة التونسية بنكهة إيديولوجية: محاولة استعادة مشهد 2014

19 اغسطس 2018
رحّبت جمعيات بقرار السبسي (الشاذلي بن ابراهيم/Getty)
+ الخط -
ستطبع مبادرة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، حول المساواة في الميراث، مسار الحياة السياسية مطلع سبتمبر/ أيلول المقبل مع عودة البرلمان للعمل وطرح مشروع القانون الجديد. ولم يخف السبسي في حديثه إلى التونسيين في عيد المرأٔة يوم الاثنين الماضي، أنه "يأمل من التونسيين أن يعاملوه مثلما يعاملون اليوم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة"، الذي حرّر المرأة التونسية بعد الاستقلال ودفعها إلى التعليم والخروج للمساهمة في الحياة العامة في مختلف مجالاتها، ومنحها حقوقاً كانت رائدة في العالم العربي.

وتركز الجانب السياسي في هذا الخطاب بشكل كامل على حركة النهضة دون غيرها، التي انفرط حلفه معها مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة في 2019، فذكر السبسي بأنها "كانت وراء كتابة هذا الدستور، الذي يعتمد عليه، وأنها أبدت احترازات على قضية الميراث أزعجته، وأنها اللاعب الأهم في البرلمان الذي يأمل منه المصادقة على مقترحه".

وشدّد السبسي على أن "النهضة حركة ذات مرجعية دينية، تبذل جهداً لتتحول إلى حركة مدنية"، لافتاً إلى أنها "أدت دوراً مهماً في الحفاظ على الاستقرار النسبي الذي عرفته تونس طيلة السنوات الأربع الماضية التي بُني فيها التحالف معه". وسعى السبسي من خلال هذه الإشارات إلى إحراج النهضة أمام الرأي العام التونسي والدولي، بالتذكير بأنها حركة ذات مرجعية دينية، وربما محاولة تقسيمها أيضاً بدعوتها إلى التصويت على مقترحه الذي رفضته أغلبية الحركة، كما أكدته قياداتها إثر الخطاب، مرجّحة ألا يتم التصويت على هذا القانون.

ولكن الهدف السياسي الحقيقي لهذا المسار الجديد هو بحث السبسي عن توازن جديد في أفق 2019، بعد تشتت حزبه وخسارته الانتخابات البلدية الأخيرة، وانشقاقه بسبب الأزمة مع رئيس الحكومة الذي عبّر صراحة عن رغبته في إصلاح الحزب والعودة إليه بعد إبعاد نجل السبسي ومدير الحزب الحالي، حافظ قائد السبسي.

واعتبر رئيس مجلس شورى حركة النهضة، عبد الكريم الهاروني، في تصريح إذاعي لـ"راديو ماد"، أن "هناك مساعي لتوظيف مسألة المساواة في الميراث لكسب سباق 2019"، مشيراً إلى أن "طرح هذه المسألة هو محاولة لإعادة الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين". وأضاف أن "من يتصادم مع الدستور وهوية الشعب التونسي وثوابت الإسلام لن ينجح في انتخابات 2019". وأكد أن "المشروع البورقيبي لا يطرح المساواة في الميراث، لأنه مشروع يتناقض مع هوية الدولة التونسية". وأشار إلى أن "من شاركوا في المسيرة المساندة لتقرير لجنة الحريات أقلية النخبة، والأغلبية ترى أن قوانين الميراث التي جاءت في مجلة الأحوال الشخصية والمعمول بها الآن في تونس عادلة" على ذمة المسؤول في "النهضة".

ومع ابتعاد الحساسيات السياسية القريبة فكرياً من السبسي وحزبه نداء تونس، وخروجها تباعاً من الحكومة ومن وثيقة قرطاج، وتزايد تأثير النهضة في المشهد السياسي التونسي، لم يبقَ أمام السبسي خيارات كثيرة لتجميع أكثر ما يمكن من الحشد السياسي الانتخابي، وإعادة تأهيل الماكينة الانتخابية وعصبها الأبرز، النساء. وللتذكير، فإن السبسي ربح انتخابات 2014 أمام الرئيس السابق منصف المرزوقي بحصوله على 1.731.529 ناخباً، 60 في المائة منهم نساء، أي أكثر من مليون امرأة.

وأبدى السبسي اعتقاده بأن "مبادرته الجديدة تشكل انتصاراً للنساء"، ويمكن أن تكون سبباً لاستعادة خزانه الانتخابي، بالإضافة إلى إعادة تجميع ما يسمى بالعائلة الحداثية أو العائلة الديمقراطية. وهي تسميات يراد منها استبعاد النهضة واستدراج اليسار إلى الأحزاب الوسطية في معارك من هذا النوع، مثلما حدث في عام 2014.

وسبق للباحث في علم الاجتماع، عبد اللطيف الهرماسي، أن قال في ندوة في تونس أن "58 في المائة من النساء التونسيات يحملن رأياً مضاداً للمساواة في الميراث وذلك استناداً إلى بحث قام به". وبغض النظر عن صحة هذه النسبة، فالثابت أن هناك رفضاً لدى عدد من النساء لهذا المقترح، ربما بسبب عدم قيام الداعين للمساواة بالجهد اللازم لتوضيح أفكارهم لدى الناس، وإثبات عدم تعارض الأمر مع ثوابت التونسيين.

ولكن هل ينجح السبسي في إعادة تجميع العائلة الديمقراطية ضد النهضة على أساس قضايا الهوية من جديد؟ حركة الشعب، القومية، ذكرت في بيان لها، أنه "في الوقت الذي تعيش فيه تونس على وقع أزمة سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة عميقة ومتشعّبة تهدّد البلاد وتماسك مؤسّساتها ومستقبل أبنائها، تصرّ العديد من الأطراف على تحويل الصّراع إلى مربّع الهويّة على خلفيّة تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة بالتّبني أو بالرّفض ومن خلال التّظاهر والتّجييش والتّحريض المتبادل".

وأكدت الحركة رفضها "الانخراط في المسيرات المساندة أو الرافضة لما جاء في تقرير اللجنة، وتعتبرها محاولة لتحويل وجهة الصّراع عن المسائل التي تهمّ الشعب وفئاته، كما أنّها حملات انتخابيّة سابقة لأوانها يحاول من خلالها كل طرف العودة بشكل أقوى للمشهد السّياسي والانتخابي، وإنّ العديد من القضايا التي وقع تناولها في التقرير قضايا خلافيّة لا تحسم بالتّظاهر والضّغط المتبادل ومحاولة تجييش الشّارع بل تتطلّب حواراً مجتمعياً هادئاً ومعمّقاً. كما أنّ التسرّع في طرحها وفرضها من دون أخذ رأي الشّعب هو مجرّد استجابة لضغوط خارجيّة تستهدف ضرب وحدة المجتمع وتلهيته عن مشاغله الحقيقيّة".

ودانت الحركة "تجاوز اللجنة المهام المكلّفة بها وإصرارها على ترسيخ خيارات إيديولوجيّة خاصّة بأغلب أعضائها متعلّقة بالتّطبيع وبعض المسائل الأخرى، التي منها ما هو ثانوي كعربون ولاء لأطراف خارجيّة تدخّلت في صياغة مخرجات التقرير".

وبدوره، اعتبر التيار الشعبي، أحد مكونات الجبهة الشعبية اليسارية، أن "القضايا التي وردت في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة تتطلب الحوار المعمق حولها من قبل خبراء ممثلين لكافة الحساسيات الفكرية والسياسية بما يسمح ببلورة موقف وطني يكرس قيم حقوق الإنسان والحريات الواردة في الدستور ويحفظ الأمن القومي لتونس ويمنع العودة لمربع الاستقطاب الثنائي المغشوش ويحول دون عودة الإخوان والمجاميع التكفيرية إلى مربع (الإسلام في خطر)، في الوقت الذي شكلت فيه هذه المجموعات أكبر خطر على الإسلام وقيمه السمحاء".

وأكدت قيادات أخرى من الجبهة الشعبية على تمسكها بحقوق المرأة التونسية، ومطالبتها من قبل السبسي بتحقيق هذه المطالب، ولكنها تعتبر في الوقت نفسه أن هذه المبادرة هي مناورة سياسية انتخابية. وتنبغي الإشارة إلى أن الأحزاب التي كانت قد ساندت السبسي في انتخابات 2014 شعرت بخيبة أمل بعدما تنكر لها وتحالف مع النهضة مباشرة بعد الانتخابات. وحتى الأحزاب الليبرالية التي انضمت لوثيقة قرطاج الأولى خرجت منها لينفرط العقد بذلك.

وأثبتت تجربة الانتخابات البلدية أن هذه الأحزاب لم تعد مجبرة على الحسم في خلافات النهضة والنداء والانتصار لطرف على حساب آخر، مثلما حدث في الدور الثاني لبلدية تونس الرمزية، عندما رفضت الجبهة الشعبية وغيرها تأييد مرشح النداء، لتفوز في النهاية مرشحة النهضة بالمنصب. وكان النائب عن حركة النهضة، عبد اللطيف المكي، قد تحدى السبسي في عرض مقترحه على البرلمان، مؤكداً أنه "سيكتشف بنفسه أن هناك معارضين آخرين لمبادرته غير النهضة".

وبقطع النظر عن الحسابات السياسية الحزبية، بدا أن مبادرة السبسي فشلت حتى الآن في إقناع الرافضين والتحاور معهم وتبيين جدوى المبادرة وخلفياتها وأهدافها، ما قاد إلى الاعتقاد بأن هناك محاولة للمرور بقوة عبر الرئاسة والبرلمان وتجاوز رأي الناس، ولكن هذه المغامرة محفوفة بمخاطر كثيرة، اجتماعية وحتى انتخابية.

ورأى مراقبون أن السبسي ربما يخسر عدداً من الأصوات بسبب قوله يوم 13 أغسطس/ آب الماضي: "نحن لدينا تعامل مع الدستور وأحكامه آمرة، وليس لنا علاقة بالدين أو القرآن أو الآيات القرآنية، والقول إن مرجعية الدولة دينية قول خاطئ وخطأ فاحش، لأن الدولة التونسية دولة مدنية كما نصّ الدستور على ذلك".

وقال فريد الباجي، أحد الشيوخ الذين كانوا قد انضموا سابقاً لنداء تونس قبل مغادرته: "أكررها لرئيس الجمهورية: اختم بخير، لقد أحسنّا الظن بك، لكن هذه المرة الحق أحق أن يُتّبع. نحن ديننا على دين محمد ليس على دين بُشرى (بالحاج حميدة)، هذا لن يكون أبداً". وأضاف في فيديو تداولته الصفحات الاجتماعية: "سنحاول بالطريقة الديمقراطية أن نجعل هذا الاقتراح ميتاً بل هو اقتراح ولد ميتاً. الرئيس عليه أن يحترم عقيدة الشعب. حافظوا على دينكم، أحذركم أن تنتخبوا أي شخص سيوقع على هذا القانون. سنشن حملة على كل من سيوقع باسمه، من يسعى لتدمير علم القضاء والمواريث في ديننا يسعى لتدمير تونس، وعليه لا نعاقبه لا بالتكفير ولا بالهجوم بل نعاقبه عبر حرمانه من الوصول إلى السلطة التشريعة والتنفيذية".

المساهمون