سايكس- بيكو وواقعنا الراهن

09 يونيو 2016
+ الخط -
من تقاليد الوطنية السورية رفض ما ترتب بعد الحرب العالمية الأولى على اتفاق سايكس - بيكو بين فرنسا وبريطانيا، لكونه قسّم سورية الطبيعية إلى دولٍ وإماراتٍ وكانتوناتٍ وولايات، وحال بين العرب الخارجين للتو من الإمبراطورية العثمانية، وما كانوا يصبون إليه من توحيد مجالٍ عربيٍّ، يبحث عن مكانٍ تحت الشمس، ليكون طرفاً مستقلاً وفاعلاً في المجالين، المحلي والدولي.
كان العرب يعتقدون أن خروجهم من السيطرة العثمانية سيفتح أبواب وحدتهم بقوة ضروراتٍ ذاتيةٍ وموضوعيةٍ متنوعة، وأن قيام دولة عربية واحدة سيعيدهم إلى وضعٍ اعتبروه طبيعياً، آمنوا أنه كان قائماً خلال تاريخهم الإمبراطوري المديد، لكن الدولتين الاستعماريتين الرئيستين كان لهما مشروع آخر آنذاك، عبرتا عنه في اتفاق سايكس - بيكو الذي حال بين العرب وتأسيس كيان دولوي وحدوي يضمهم، وأخذهم إلي ما نراه اليوم من دولٍ وكياناتٍ سياسيةٍ، اتهمها العروبيون بخيانة الأمة لأنها قطرية. وبالتالي، منتجة للتخلف والهزائم، تعادي شعباً عربياً، وتكبت ميله الفطري إلى وحدةٍ لا يستقيم له عيش دونها.
كان قادة الدولة المتهمة ب "القطرية" وطنيين، ناضلوا من أجل استقلال بلدانهم، وآمنوا، كغيرهم، بوحدة العرب كأمة. بهذه الخلفية، عملوا لإضعاف النفوذ الاستعماري على دولهم التي اعتبروها هم أيضا "ناقصة التكوين قوميا"، وقبلوا انفتاحها على الشعب في الداخل، والأمة العربية في المجال القومي، وأرسوا مقدماتٍ واعدةً لتحديثها السياسي عبر الأخذ بنظام برلماني، انتخابي وبالتالي تداولي، فصل السلطات، وسمح بتأسيس نقاباتٍ وأحزابٍ مختلفة الرهانات، وبصحافةٍ حرة إلى حدّ ما، وقضاءٍ شبه مستقل ونزيه، وقام بتنميةٍ زراعية وصناعية نشطة، ومارس سياساتٍ متوازنة نسبياً في علاقة الأجور بالأسعار وتوزيع الدخل، وترك باب المستقبل مفتوحاً على خياراتٍ يضمن اعتمادها تقدماً مستداماً يضبط نمو سورية السكاني ويحفز عمرانها.
في هذه الحاضنة، تزايدت شعبية الاحزاب السياسية المطالبة بالعدالة والمساواة وحقوق الإنسان والمواطن، وبوحدة العرب وتحرير فلسطين. وقد رجحت كفة هذه التيارات داخل الدولة الوطنية إلى الحد الذي اقنع قياداتها بحلها عام 1958، من أجل دولةٍ عربيةٍ موحدةٍ، نواتها دولة الوحدة مع مصر الناصرية.
بفشل الوحدة عام 1961، تخبطت الدولة السورية، وعجزت عن استعادة هويتها السابقة دولةً وطنيةً، ولم تلبث أن أسقطت عام 1963، بانقلاب استولى حزب البعث العسكري عليه، قبل أن يقيم سطلة حزب واحد شمولية، رفعت راياتٍ قوميةً متشدّدة، استخدمتها للصراع مع العالم العربي، وليس من أجل توحيده، ثم أغلقت نهائياً باب النهج القومي، عبر ربط الوحدة
بالاشتراكية، بينما انفردت، في الداخل، انفراداً مطلقاً بالمجالين السياسي والسلطوي، وقضت على ما أنجزه شعب سورية من حرياتٍ وحقوق، على الصعيدين السياسي والاجتماعي، في ظل دولته الوطنية التي لم يتوقف "البعث" عن شتمها ومعاداتها، كدولة سايكس - بيكوية خائنة، وقضى على طابعها الوطني، بحجة أنها "قطرية"، قبل أن يستبدلها منذ عام 1970 بسلطةٍ استبداديةٍ، مهمتها الرئيسة إعادة إنتاج المجتمع السوري ودولته بطرق ألغت حياته السياسية، وأخضعته لمصالح (وأهواء) الممسكين بالحكم الذين أسندوا نظامهم على تكويناتٍ ما قبل مجتمعية، معاديةٍ لوحدة المجتمع السوري، ناهيك عن وحدة الوطن العربي، تطلبت رعايتها تطييف المجتمع والسلطة، وتحويل شعب سورية الواحد إلى جمعياتٍ متناحرةٍ متناقضة المصالح والولاءات، أركعه عنفها تحت أقدام رئيسها، وأفقده حقوقه، وما حققه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً في نظام الحريات البرلماني الذي كان يُدان ويسفّه، باعتباره نظاما "رجعياً معادياً للشعب والأمة، عميلاً للخارج".
ماذا نجد، في حال قارنا أوضاع المسألة الطائفية السورية التي كانت تمر في طور تلاشٍ وتراجع، في دولةٍ وطنيةٍ، فشل سايكس- بيكو في منعها من أن تكون شعبيةً ووحدويةً، مع أوضاعها في ظل سلطةٍ استبداديةٍ أقامها العسكر، ادعت أنها قومية واشتراكية. في الدولة الوطنية، كانت الطائفية تتراجع على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، بفضل الحريات العامة والخاصة التي أتاحتها، في حين استعادت عافيتها وتجدّدت، وتحدّثت أمنياً في ظل سلطةٍ استبداديةٍ أرست وجودها عليها، كتكوين ما قبل مجتمعي، سابق للمجتمع، ونافٍ بالتالي للوطنية سياسة وانتماء، ولوحدة العرب هدفاً، وللعدالة، ناهيك عن الاشتراكية، ولحقوق الإنسان والمواطن، ناهيك عن الحرية. ومع ذلك، هي لم تقلع يوما عن انتقاد "قطرية" الدولة الوطنية و"رجعيتها"، بحجة أنها دولة سايكس - بيكوية.
إلى هذا، أخرجت قوانين الدولة الوطنية وممارساتها وتوازناتها العنف من المجال العام، فلم تستخدمه استخداماً منهجياً أو دائماً لنزع السياسة عن المجتمع، بينما جعله النظام الاستبدادي أداة سياساته الداخلية والخارجية الرئيسة التي لم يتوقف يوماً عن استخدامها، في سعيه إلى السيطرة على المجتمع والمواطن الفرد، وإلى إبطال الشأن العام، بما هو شأن سياسي ومجتمعي في آن معا.
واليوم، يخوض الشعب السوري معركة حياةٍ وموتٍ من أجل استعادة دولته الوطنية، بمبادئها وقوانينها وحرياتها، ولا هدف له غير التخلص من نظام استبدادي/ سلطوي، دمر دولته وقوّض مجتمعه وفكك وطنه، وحوّله إلى كياناتٍ طائفيةٍ وإتنية متعادية/ محتربة، كرّسها وحماها ودعمها، لكي يحول بين الشعب وتجميع قدراته، بما يتيح له التخلص من استبداده ونيل حقوقه.
كنا نعتقد أن تجاوز الدولة الوطنية التي كانت تسمى باحتقار "قُطرية"، سيأخذنا إلى الوحدة والتقدم، وسيكون خطوةً تاريخية مفصلية إلى الامام، فأخذنا غيابها إلى استبداد سلبنا حريتنا وفاقم تأخرنا، وجسّد قفزةً إلى الهاوية: إلى زمن أغلق في وجوهنا أبواب الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية، عوض أن يفتحها ويمكّننا من تحقيقها، كما كان يعدنا. واليوم، هل صرنا إلى زمنٍ نقاتل فيه للحفاظ على كيانات سايكس- بيكو على عجرها وبجرها، لأنها مهدّدة بالتفتيت والتفكك الذي سيعيدنا إلى وضعٍ ليس فقط ما قبل مجتمعي، وإنما كذلك ما قبل دولوي، ستأخذنا إليه، بين أسباب أخرى، النتائج المريعة التي ترتبت على استبداد قومجيٍّ فعل كل ما هو ضروري لتذرير مجتمعنا، وتقويض دولتنا، ثم، وما أن طالبناه بحريتنا، وبدأنا ثورة لاستعادة دولتنا الوطنية، انتقل إلى تدمير وجودنا المادي، ومارس علينا قدراً من الهمجية، لا تبقى معه دولة، أو يتخلق مجتمع.

E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.