سانتا كلوز: الأحمر الذي استولت عليه كوكا كولا

25 ديسمبر 2018
يرى البعض أن "سانتا كلوز" يمثل الهيمنة الرأسمالية (Getty)
+ الخط -
لم يخفِ سانتا كلوز ميوله السياسيّة في منتصف القرن التاسع عشر، أثناء الحرب الأهلية في أميركا، بل كان مؤيداً للاتحاد، أو الشمال، حينها كان يدخن، ولم يكن سميناً، كما أن ثيابه ضيقة، وقدماه نحيلتان، وذقنه غير مشّذبة، ككائن أسطوري نوعاً ما، يمكن لنظرة خاطئة تجاهه، أن تثير غضبه وتدفعه إلى رمي سيجارته أو غليونه، وركل من يحدق فيه.

ما حدث لاحقاً، وخلال الكساد الاقتصادي في الولايات المتحدة في العشرينيات والثلاثينيات، قررت كوكا كولا الترويج لمنتجاتها، التي كانت تعتبر شراباً صيفياً، لا يتلاءم مع البرد. كذلك، حاولت كوكا كولا أن تجعل منتجاتها تحضر ضمن أوقات العمل، كما لو أنها قهوة؛ مشروبات منعشة، تكسب الفرد طاقة، وتمنحه بضع دقائق من الاسترخاء للاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة في الحياة، كشرب قنينة كوكا كولا بعد، أو أثناء، نهار عمل شاق.

المعلومات السابقة التي يوفرها موقع كوكا كولا الرسميّ، تُحدثنا عن آلية بناء الحملة الإعلانيّة، ومحاولة الاستثمار في حميمية وقت الفراغ والانشغال الجديّ بالعمل، اللذين دفعا الشركة العملاقة للترويج لمنتجاتها ضمن مواسم الأعياد. ومنذ العشرينيات، بدأت صورة سانتا كلوز تظهر في إعلاناتها ضمن المتاجر، إلى أن وظفت الشركة عام 1931 الرسام هايدن سانبلوم ليصمم إعلانات الأعياد ضمن حملة "العطش لا يعرف سبباً"، وخلق سانتا كلوز خاصّاً بـ كوكا كولا تستطيع الشركة توظيف صورته في أي مكان .
يُقال إن سانبلوم اعتمد قصيدة لـ كليمانت كلارك مور مكتوبة عام 1822، كي يستحضر الإلهام لرسم سانتا الجديد، ونقرأ فيها: "عيناه تلتمعان، وغمازاه ظاهران من السعادة! وجنتاه كانتا كالأزهار، وأنفه كالكرزة! كان فمه الصغير السعيد مرسوماً كقوس، ولحيته على ذقنه بيضاء كالثلج، يحمل غليونه بقوة بأسنانه، والدخان يحيط برأسه كإكليل. كان له وجه واسع، وكرش مدوّر صغير/ كرش يهتز حينما يضحك، أشبه بإناء من الجيلي".

بعد أن اتضحت معالم سانتا ولحيته، ووجهه البشوش ذي الخدين المحمرين، بدأت صورته تغزو الصحف والمجلات، وعرضت "اللوحة" الأولى له في عدد من المتاحف العالميّة كاللوفر في باريس، ومتحف تورنتو للفن المعاصر. والمثير للاهتمام أن شكل الوجه والعينين والخدين الحاليين اعتمده سانبلوم بناء على صورته، إذ استخدم انعكاسه في المرآة، والصور الفوتوغرافيّة لجعل سانتا مشابهاً له. في عام 1942، ظهر مساعد سانتا، "سبرايت بوي"، والذي تحول اسمه، لاحقاً، في الستينيات، إلى علامة تجاريّة للمشروب الغازيّ "سبرايت".
بالطبع، لم تخترع كوكا كولا الميلاد، ولا حتى سانتا كلوز، هي عدّلت من شكله كجزء من علامتها التجاريّة؛ فالشركة لا تمتلك حقوق ملكيّة على سانتا كلوز، فهو يرتدي الأحمر منذ صوره الأولى التي رسمها توماس ناست أثناء الحرب الأهليّة. لكن التساؤل هنا ثقافيّ، ومرتبط بقدرة شركة على خلق تقاليد وتمثيلات ثقافيّة - وأحياناً معتقدات - تتفشّى ضمن النسيج الاجتماعيّ، وتجعل نفسها جزءاً من التقليد الدينيّ، الذي لا علاقة له بميلاد المسيح ولا حتى قيامته، وكأن الرأسمالية اخترعت عيدها الخاص وتغلغلت في الطقس الديني، لتخلق سلوكاً استهلاكياً، ولا نقصد هنا العطاء والكرم، بل موسم للتسوق، وطقوس حميمية لتبريره وجعله ذا معنى مختلف عن الجوهر الديني المرتبط بالعطاء الشخصي والحميمي، لا المكلف وصاحب العلامة التجاريّة المشهورة.
يمكن النظر إلى "سانتا كلوز" الذي رسخته كوكا كولا كجزء من آلية عمل الهيمنة الرأسماليّة، لا بوصفها تقسم أوقات العمل والراحة وتستثمر في الاثنين، عبر الإنتاج في الأول والاستهلاك في الثاني، بل بوصفها تغيير لإيقاع العالم والزمن، وتبتدع سياسات معينة لهذه الأوقات، قائمة على أساس الإيمان بالوعد بالسعادة، الذي تطبّعه وتجعله تقليداً، يدافع عنه المؤمنون به. إذن، لا حاجة لـ كوكا كولا كي تحمي "صورة" سانتا، يكفي فقط الملايين الذين ينتظرون هداياه.
هذ التلاعب بإيقاع الزمن وابتداع التقاليد في سبيل الربح متغلغلان عميقاً في أدوارنا الاجتماعيّة، تلك التي رسختها الرأسمالية، كالسيدة كلوز، زوجة سانتا كلوز، التي تبقى في المنزل وتصنع الكعك وتجهز الألعاب. وهنا تكمن إشكالية هذه التقاليد، التي على وهميتها، هي أشبه بالدين، نشكك بها، لكننا لا ننفيها، أو نتوقف عن ممارستها، بل نجسدها يومياً وفي كل موسم عطلة، لنرى أنفسنا أمام الصيغة المثاليّة لاستهلاك، وهي تحويل الوعد الذي تقدمه الإعلانات إلى حقيقة ممارسة، خارج زمن الشراء وضمن الحياة اليوميّة. والمثير للسخريّة أن كوكا كولا ذاتها، لديها الـ yes girl، المسترخيّة المبتسمة التي تحدق فقط في يد تقدم لها الكوكا كولا، كغرض سحريّ يحمل خلاصها.
هكذا، تحول الميلاد أو موسم العطلة كأي عيد إلى مساحة للاستثمار، وأعيد ترتيب أوقاته بما يتلاءم مع صيغة الشراء والإنفاق، فالجمعة السوداء والإنتاج السينمائي ومجموعة الاستثمارات هذه استبدلت روحانيّة الميلاد بإيقاع استهلاكي وتلاشى الحس الروحاني، ليحلّ محله الرضا الناتج عن شراء السلع أو تبادلها، وهذا ما لا نراه في المنطقة العربيّة، التي لم يتحول فيها عيد الميلاد إلى صيغة استهلاكيّة، بسبب حلول شهر رمضان، بوصف زمن الاستهلاك الأقصى، وقسّمت أوقات التسليّة والعمل على أساسه، بوصفه "الموسم" الذي تحشر فيه المنتجات بأنواعها ويقسم إيقاع إنتاجها لتحتكر في أيامه الثلاثين.
دلالات
المساهمون